“عدّ عكسي”.. مسرح عرائس للكبار
أمينة عباس
مع كلّ عرض تقدّمه الفنانة هنادة الصباغ تؤكد قدرتها على تقديم كلّ ما هو جديد في مسرح العرائس، وهي اليوم تُعدّ من أكثر العاملين في هذا المسرح أهميةً، وتجاربها العديدة التي حققت نجاحاً كبيراً، وعرضها الحالي الذي يُقدّم في مسرح الحمراء ويحمل عنوان “عدّ عكسي” خير دليل على ذلك. تقول الصباغ: “أعدّ نفسي باحثة عن الجديد والتغيير، وأي عمل أقوم به أعدّه تجربة جديدة أتعامل معها كمشروع، ولديّ غيرة كبيرة على هذا الفن، ولا أستسهل، وأعتمد مبدأ النوعية وليس الكمية، من هنا لم يرَ “عد عكسي” النور إلا بعد عمل دام خمس سنوات، حضرت له خلالها بهدوء ودقة متناهية طالت جميع تفاصيله على صعيد الفكرة وأشكال الدمى والموسيقا والديكور، لأن الفنّ عندي أمانة وغاية، وليس مجرد زخرفة عبثية، فعملي يمثلني وهو مرآتي، لذلك أعمل على أصغر تفصيل فيه بالشكل والحركة والمعنى، خصوصاً إذا كان لديّ شركاء في العمل يحملون بداخلهم الحبّ الكبير لعملهم، لذلك أؤكد أن العرض أُنجز بشراكة حقيقية مع الموسيقي سامر الفقير وأ. أدهم سفر الذي كان مواكباً لفترة التحضير وقدّم رؤية بصرية مذهلة”.
“عدّ عكسي” هو التجربة الثانية لهنادة الصباغ في مسرح العرائس الموجّه للكبار، واستخدمت فيه نحو خمسين دمية: “استُخدمتْ في العرض أنواعاً عدة من الدمى، أكثرها أهمية دمى الطاولة، وهي الأقدر برأيي على نقل الإحساس، بالإضافة إلى دمى محمولة ليتمّ من خلالها إيصال رسالة العرض الذي يتحدث عن صراعات الإنسان الداخلية وقدرته على أن يكون متوازناً، والتأكيد على أن الحياة بسيطة وقصيرة وفيها الكثير من التفاصيل التي تمرّ أحياناً مرور الكرام والتي لا ندرك أهميتها إلا حين نكبر، وذلك من خلال شخصية الجدّ ورجوعه العكسي لكلّ مراحل حياته من الطفولة إلى الكهولة، وهي المراحل التي يمرّ بها أي إنسان، فيها لحظات فرح وحزن وتجارب تكلل بعضها بالنجاح وبعضها بالفشل، ليؤكد لنا العرض أن الفشل ليس عيباً، وأن الإنسان يعيش تناقضات كثيرة في الحياة، منها السلبية ومنها الإيجابية، وكيف أن الإنسان فيها قد يعيش حياة السلطة والغرور واللهو والضياع والجد والمسؤولية، كما يتناول العرض أيضاً فكرة الموت الذي لا يصبح مخيفاً حين يصل الإنسان إلى مرحلة يشعر فيها أنه قدّم رسالته ليقول في النهاية أن الحياة قصيرة وهي عبارة عن محطات محملة بصور وذكريات نحاول من خلالها التقاط شعور السعادة الذي نسعى للبحث عنه طيلة حياتنا، وهو موجود في هذه البساطة بتلك اللحظات القصيرة التي مرّت من دون أن نتلمسها في حاضرها، بل أصبحنا نبحث عنها في ذكريات الماضي”.
يثير العرض العديد من التساؤلات لأي مشاهد بهذا الطرح الجديد الذي سبق وطرحته هنادة الصباغ في عمل سابق لها بعنوان “حياة من ورق” عبر الدمية التي تراها عنصر جذب: “عند تصميم الدمية أفكر بماذا تريد أن تقول، مع الأخذ بالحسبان أن المُشاهد سيتعامل معها كشخصية، مع تأكيد أن الدمية كتلة من المشاعر والأحاسيس عندما تصبح بيد ممثل بارع يملك من الحسّ والتركيز القدرة على نقل مشاعره للدمية التي تعبّر عن مشاعرنا وأحاسيسنا، وإذا اقتنعنا بهذا المفهوم وأدركنا ماهية مسرح العرائس استطعنا طرح مشروع وعمل جديد، ويسعدني أن المحرّكين في “عدّ عكسي” نجحوا في إيصال مشاعرهم بغضّ النظر عن كونها دمية وذلك من خلال التعامل معها بعيداً عن شخصياتهم، لتكون الدمية بمشاعرها حاضرة ومؤثرة، وقد برعوا في ذلك لأنهم عملوا ممثلين ومحركين بشغف واحترافية عالية وحبّ في سبيل بثّ الروح فيها، وهذا يبيّن أن نجاح أي عمل مسرحي عرائسي يتوقف بالدرجة الأولى على الصدق في التقديم والحبّ والتبني الكامل للمشروع، وكان من حسن حظي وجود شركاء في العمل يحملون بداخلهم الحب الكبير لعملهم”.
وعن صعوبة تأليف موسيقا لعرض صامت تكون فيه الموسيقا المحرّك الأساس للدمى يقول المؤلف الموسيقي الفنان سامر الفقير شريك الصباغ في العرض: “بعد كتابة النص وتشريحه وبالاتفاق مع المخرجة تمّ التوصل إلى الصيغة النهائية للموسيقا، ولا أنكر صعوبة هكذا عروض لأن الممثل سيعتمد على الموسيقا في حركته، وهذا تطلّب مني وقتاً طويلاً لتأليف موسيقا ستكون معيار حركة الممثل والتعبير من خلالها عن مقولة العرض الصامت”.
تستمر عروض “عدّ عكسي” وهو من إنتاج مديرية المسارح والموسيقا يومياً على خشبة مسرح الحمراء- السادسة مساء، ويشارك فيه المحرّكون أيهم الشيشكلي، ورندا الشماس، وزينب ديب، وندوة الصواف، وجوري أكتع، وأحمد العبد، ولؤي الحلبي، ومحمد إبراهيم، وقصي سليمان.
يُذكر أن هنادة الصباغ خرّيجة كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، حاصلة على ماجستير اختصاص سينوغرافيا مسرحية وتصميم مسرح عرائس من روسيا، درّست في المعهد العالي للفنون المسرحية وقدّمت في مديرية المسارح والموسيقا عروضاً عدة، منها “موزاييك العرائس”، و”ناس من ورق”، و”سكان البحر”، و”مزرعة الأصدقاء”، و”حيلة أرنوب” كما أقامت ورشات عمل عدة بالتعاون مع المديرية وورشات أخرى في بعض الدول العربية كتونس والأردن، وشاركت في مهرجانات عربية عدة كمهرجان الإسكندرية، وكمحكّمة في “مهرجان العرائس” بالبصرة في كلية الفنون الجميلة في العراق، ونالت العديد من الجوائز.