ثقافةصحيفة البعث

قراءات شعرية خارج الصندوق

حمص- سمر محفوض

في كلّ تجربة يخوضها المترجم في نقل المعرفة بين الشعوب والثقافات تتفتح أمامه دروب جديدة، وتتكشف عوالم معرفية مختلفة، خصوصاً في حاله تنوع المصادر وغناها، وربما يكون في قراءة أشعار الأمم الأخرى، ما يضفي شغفاً حقيقياً وبعداً سحرياً مميزاً، حين يقرأ الشعر بلغته الأم، وما يحاول المترجم نقله عن لغة الآخر وفنونه في التعبير هو في أقصى أمانيه تجسيداً لذلك السحر بوصفه ناقلاً أميناً للغة الأخرى عبر وسيط يلملم سحر المفردات ويجمعها ويترجمها بما يغني النص ويعطيه مساحات شاسعة من الجمال والألفة، كلّ ذلك وسواه كان موضوعاً حاضراً في ندوة “الشعر العالمي المترجم” التي أقامتها رابطة الخريجين الجامعيين بالتعاون مع جمعية “العاديات” بحمص، وذلك في مقر الرابطة بحمص.

وركّز الدكتور نزيه بدور، رئيس جمعية “العاديات” بحمص على نصّ شعري قصير باللغة الروسية، وترجمته إلى اللغة العربية بعنوان “حبيبتي” للشاعر والكاتب الروسي الشهير “رسول حمزاتوف” المولود في قرية تسادا بداغستان، والذي عكس طبيعة ودماثة بلاده في جبال القوقاز، حيث تظهر ملامح شعر مغاير من ناحية الجمالية والأحاسيس، وتظهر هنا أهمية الترجمة من اللغات الأخرى، سواء الروسية أم غيرها كرابط ثقافي مهمّ يسهم باتساع دائرة التلقي بين الأمم وتوثيق العلاقة بين الشعوب، على اعتبار أن التراث الشعري والفكري الثقافي الإنساني فضاء لا نهائي من الدهشة والتشكيل اللغوي والابتكار في اللفظ والمعنى والشكل، والاختلاف والشغف والمضامين المتنوعة والمختلفة الجمال.

بينما نقلت الأديبة الروائية رويدة تميم عبر قصيدتين باللغة الإنكليزية للشاعر الإنكليزي “وليم شكسبير” أحاسيس هذا الشاعر العظيم الذي تغنى بجمال معشوقته بصورة فريدة، وإسهاب وصفي لمحاسنها وسحرها الذي أسر قلبه وكبله بوثائق العشق القوية، مقدماً كل ذلك ضمن غلالة شفافة طغت عليها بشكل ما اللغة المسرحية، لتحمل القصيدة الثانية للشاعرة “مايا أنجيلو” زخماً أنثوياً عالياً، اتّسم بالعنفوان وروح التحدي غير المسبوق في هذا النمط الشعري الأخاذ، فيما حملت القصيدة بعنوان “أنا أنهض” تشبيهاً للروح المتمردة بدورة الأفلاك في كوننا الواسع وانبلاج النهار من الليل والمدّ والجزر عبر البحار، لاستمداد قوة النهوض من كل كبوة، وحتمية الضوء والشروق بعد كل عتمة تلمّ بالكائن، وانبثاق الأمل مهما كان المشهد في دواخل ذاتنا مأساوياً.

وينقلنا الشعر الفرنسي نحو كيانات من الرومانسية، حاول إظهارها الدكتور الأديب قصي أتاسي، متناولاً أربعة نصوص شعرية فرنسية، بداية مع قصيدة “عشاق مقاعد الأرصفة في باريس” للشاعر “جورج براسنس” التي تتناول قصة العشاق الصغار وعلاقتهم بالمقاعد المنتشرة على الأرصفة باعتبارها إعلاناً بسيطاً عن المشاعر المتدفقة والنبيلة في عالمنا الكبير ومظاهره البعيدة في إعلان أشكال الحب التي ربما تكون أقل صدقاً وبراءة ورومانسية، ومن ثم قدم “قصيدة الخريف” لـ”شاتوبريان” في توضيح علاقة الإنسان بالفصول ودورة الطبيعة، وما تمثله من قيم قريبة من روح الشاعر والمترجم وانعكاس الطبيعة روحاً وفكراً على عواطف الشاعر ونقلها للقارئ لزيادة إحساسه المرهف، وإن زادت قوة الطبيعة وقسوتها أو ربما جمالها من حوله، وفي “النبع والبحر” للأديب “فيكتور هوغو” حضر التماهي والسعي الحثيث للاندماج بين الأصل والفرع في أسلوب شعري يتضمن توريات متنوعة وتناثراً للأحاسيس بشكل واضح وضمن قالب شعري محبّب يجذب القارئ بصورة أكبر نحو شغف الإبداع الشعري إلى حدّ كبير، لتكون قصيدة “لا تهجريني” للمغني “جاك بريل” خاتمة القصائد المترجمة وأنشودة الشوق والتمسّك بالحبيبة والخوف من فقدانها وكأنها نهاية الأفق والكون، في تعبير عن مدى صعوبة استبدال المشاعر الإنسانية الصادقة للحب بكلّ لغات الكون، ولدى كلّ المجتمعات التي لا تجمعها لغة واحدة كما العشق والهيام، ومن ثم انتقل الأديب أتاسي إلى قراءة مقاطع من الشعر العربي الجميل للشاعر السوري بدوي الجبل والشاعر اللبناني جوزيف حرب، في تأكيد مدى التمازج الشعري بين الإحساس والفكرة مهما تنقلنا بين الأساليب واللغات، وبرأي الدكتور أتاسي الشعر من أرقى الفنون والرومانسية الشعرية مدرسة خالدة عالمياً، وليس للشعر من نتائج مباشرة حسية أو عملية، والشعر كان وسيبقى من أهم الفنون وأصعبها وأرقها معاً، لأنه يحمل ضمير الشعوب وحامل مشاعرها، خاصة وأن الشعر يحمل طبيعة خاصة، ونمواً صعباً أحياناً في تقبّل ترجمات الشعر، وخاصةً إن لم تكن للمترجم معرفة عميقة باللغة الأم لأنه يتميّز بتقنيات فنية وأساليب مختلفة في المضمون والشكل والتوزيع الجمالي، ومن هنا تتركز أهمية الترجمة كجسر بين الأمم والثقافات المختلفة، ولطالما كان للشعر نصيب كبير من تلك الترجمات، والتي بدورها أغنت العلاقة بين الاتجاهات الفكرية للشعراء بما تمتلك من أشكال فنية وجمالية خاصة، ومن دون ذلك ستبدو الترجمة مهمة شبه مستحيلة.

وأكد الحضور أهمية وضرورة اعتراف الجمهور المهتمّ بالشعر وتجارب الأمم وأساليب جديدة وغير مألوفة بالنسبة لهم في الكتابة ذات الجماليات، والتعرف بعمق أكثر إلى مبدعيها بعيداً عن الترجمات وما تمثله من خيانة للنص في بعض الحالات أيضاً، فالشعر كما هو معلوم حين يُقرأ بلغته يفترق عما إذا كان مترجماً فله صفات عصيّة على الحصر والتحديد، ومع ذلك هو يثري الشاعر والمتلقي، ويحثّ على البحث عبر أساليب وثقافات مغايرة.