روسيا تكسر العزلة الأمريكية
د.معن منيف سليمان
نجحت روسيا في كسر العزلة الدولية التي فرضتها الأزمة الأوكرانية، وبرزت قمة بريكس في مدينة “قازان” الروسية كأهم حدث دولي تنظمه روسيا منذ بداية الصراع، ومشاركة اثنتين وثلاثين دولة في القمة يعزز مكانة روسيا على الساحة الدولية، ويمثل خطوة مهمة نحو كسر العزلة المفروضة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هذه القمة تعد فرصة لروسيا لاستعادة دورها الفاعل في النظام العالمي، خاصةً في ظل الضغوط والعقوبات الغربية، ولا ننس أن عقد قمة بريكس وعلى هذا المستوى الكبير، يؤكد الرغبة في التحول إلى نظام عالمي جديد يعتمد على تعدد الأقطاب, وسيحاول قادة الكرملين إقناع أعضاء بريكس بتبنّي بديل للدولار في المعاملات المالية الدولية.
بدأت فعاليات قمة بريكس بمدينة “قازان” عاصمة جمهورية “تترستان” في روسيا وسط تطلعات لتعزيز التعاون الاقتصادي بين دول المجموعة، بما يحميها من التحديات التي تواجهها وسط انفتاح على زيادة عدد دول التكتل، بعد أن زاد إلى عشر خلال السنة الحالية بعد أن كان خمس فقط، والخمس الجدد هي السعودية ومصر والإمارات وإيران وإثيوبيا.
شارك في الاجتماعات 32 دولة، بينها 22 على أعلى مستوى وقيادات 6 منظمات دولية، وناقشوا قضايا التفاعل بين دول الأغلبية العالمية، في حل الأزمات الملحة، بما في ذلك تحسين بنية العلاقات الدولية، وضمان التنمية المستدامة للأمن الغذائي والطاقة، بالإضافة إلى الوضع المتفاقم في منطقة “الشرق الأوسط”.
بريكس مجموعة من الدول كانت تضم في بداية تأسيسها عام 2006 البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، نشأت بمبادرة من روسيا. لذلك فإن الاسم الأساسي كان “بريك” وهو تشكيلة الحروف الأولى من أسماء تلك الدول باللغة الإنكليزية، وفي 2010 بعد انضمام جنوب أفريقيا صارت “بريكس”.
تقدمت دول عديدة للانضمام إلى بريكس، بعضها نال العضوية حديثاً خلال 2024، مثل إيران والإمارات وإثيوبيا ومصر بالإضافة للسعودية، في حين تراجعت الأرجنتين عن طلبها بعد تسلم الرئيس الحالي “خافيير مايلي” مهامه، مبدياً تعارض الكثير من سياساته مع خلفه، ويذكر أن ماليزيا وتايلاند وتركيا، من الدول التي لا تزال تسعى للانضمام.
“كريس ويفر”، وهو خبير اقتصادي وشريك مؤسس لشركة “ماركو أدفايزوري” للاستشارات، يرى أن “الرسالة بوضوح هي أن محاولات عزل روسيا قد باءت بالفشل”.
ويقول “ويفر”: “جانب كبير من رسالة الكرملين هو أن روسيا تقف صامدة في مواجهة العقوبات. نعلم أن هناك شروخاً عديدة تحت السطح، لكن على المستوى الجيوسياسي، روسيا تنعم بكل هؤلاء الأصدقاء وكلهم يسعى للشراكة مع روسيا”.
وفي قمة قازان، سعى الرئيس بوتين إلى العمل على تجاوز تلك الاختلافات بين الدول الأعضاء، والتأكيد على الوحدة الجامعة بين الدول الأعضاء، وإرسال رسالة واضحة إلى الداخل الروسي وكذا المجتمع الدولي، مفادها أن روسيا أبعد ما تكون عن العزلة، وأن المحاولات الغربية لعزل موسكو باءت بالفشل الذريع.
وصف الكرملين القمة بأنها “انتصار دبلوماسي سيساعده في بناء تحالف قادر على تحدي السيطرة الغربية”، ذلك أن قمة بريكس وعلى هذا المستوى الكبير، تؤكد الرغبة في التحول إلى نظام عالمي جديد يعتمد على تعدد الأقطاب، بعيداً عن سيطرة النظام العالمي الحالي الذي باتت سياسته تخدم فقط مصالح الدول المسيطرة عليه بقيادة الولايات المتحدة، على حساب الدولة النامية خاصة دول القارة الأفريقية، إضافة إلى أن منظماته وأدواته أصبحت ذات سمعة سواء على صعيد التمويل أو على صعيد تحقيق العدالة والأمن والسلم الدوليين لتبنى سياسة ازدواجية المعايير، وتعاطيه مع حرب غزة ولبنان خير نموذج.
إن “بريكس” الذي يشير إلى: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، عادةً ما يشار إليه كتجمّع يعدّ ثِقلاً موازياً للمعسكر الغربي، وقد توسّع هذا التجمّع مؤخراً فشمل كلاً من: مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة. كما أنّ السعودية، أيضاً، تتلقّى دعوات للانضمام إلى بريكس.
وتمثّل أُمم تجمّع بريكس نسبة 45 في المئة من إجمالي سُكان العالم، فيما يمثّل مجموع اقتصادات هذه الدول أكثر من 28.5 تريليون دولار – ما يناهز 28 بالمئة من إجمالي الاقتصاد العالمي. وقد ألمح مسؤولون روسيون إلى أن 30 دولة أخرى ترغب في الانضمام إلى تجمّع بريكس أو تحاول توثيق علاقاتها بنادي بريكس الاقتصادي.
بعض هذه الدول يشارك في قمة قازان، حيث ثمة توقعات بأن يكثر الحديث الذي يفيد بأن تجمّع بريكس يمثّل “أغلبية عالمية”، ويعكس تنامي أهمية هذه المجموعة على الساحة العالمية.
وفي هذا الصدد يقول رئيس مجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين إن:” مجموعة بريكس تمثل ضماناً لعالم متعدد الأقطاب، حيث تتمتع الدول الأعضاء بحرية التعاون دون ضغوط أو تدخلات خارجية، على عكس الاتحاد الأوروبي الذي يُعرف بفرضه شروطاً على الدول”، مؤكداً أن “اقتصاد دول بريكس يتفوق بشكل كبير على مجموعة السبع، التي تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك تراجع الناتج المحلي الإجمالي في دول أوروبية عدة، والخسائر الكبيرة التي تتكبدها صناعاتها”.
وفي السياق نفسه أشار الرئيس الصيني “شي جين بينغ” إلى الاضطرابات الخطيرة التي يشهدها الوضع الدولي، وأكد أن قمة بريكس عامل مهم لتشكيل نظام التعددية القطبية العادلة.
وفي إطار السعي الدؤوب إلى تخفيف الضغوط الناجمة عن العقوبات الغربية، يحاول أعضاء بريكس تبنّي بديل للدولار في المعاملات المالية الدولية. ففي هذا السياق يرى “كريس ويفر”، الشريك المؤسس لشركة “ماركو أدفايزوري” للاستشارات، أن “الكثير من المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الروسي متعلق بالتجارة والمدفوعات العابرة للحدود، وأن الكثير من ذلك مرتبط بالدولار الأمريكي”.
وبناءً على ذلك تتصدر فكرة التخلص من الدولار في المعاملات البينية بين دول التكتل، ولا سيما مع تزايد العقوبات الأمريكية على روسيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا، التي كان أحد أعمدتها سيطرة الولايات المتحدة على أنظمة الدفع وتحويل الأموال عالمياً، لا سيما أنها المصدر لعملة الدولار المستخدمة في التجارة العالمية، وأغلب الاحتياطيات النقدية للدول كذلك. وقد ذكرت صحيفة “إيكونومست” البريطانية أنه من المقرر أن يتم بناء نظام مدفوعات “جسر بريكس” وفق التسمية الروسية في غضون عام، ما سيسمح للدول بإجراء تسوية عبر الحدود باستخدام منصات رقمية تديرها بنوكها المركزية.
إن زمن سيطرة واشنطن وحلفائها قد ولّى، وأن دولاً عديدة تختار الآن طريق الحوار والتعاون المتكافئين بما يخدم مصالح شعوبها، وأن المستقبل يتجه نحو دول بريكس التي أصبحت بالفعل مركزاً اقتصادياً عالمياً رئيساً، وصار على عاتق بريكس أن تمثل المستقبل في ظل الأزمات التي تواجهها الدول الغربية، ولهذا فإن بعض الدول ترى في بريكس بديلاً للاتحاد الأوروبي، ما يعكس توجه دول عديدة نحو الابتعاد عن السيطرة الأوروبية والأمريكية.