الكيان الصهيوني وفكرة الإبادة الجماعية للفلسطينيين
هيفاء علي
دعت كلوديا شينباوم، التي تم تنصيبها رئيسة للمكسيك في الأول من تشرين الأول الجاري، وهي من أصول يهودية أوروبية، الدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين إلى الاعتراف بدولة فلسطين، وذلك في خطاب ألقته يوم 1 تشرين الأول بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية للجمهورية المكسيكية.
أما الحكومة الفرنسية، فهي تحت تأثير المحافظين الجدد المتشددين، وستكون مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، في المربع الأخير لدعم دولة “إسرائيل” التي تمارس الإبادة الجماعية في فلسطين، مع التذكير بأن ثلاثة أرباع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد اعترفت بالفعل بالدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى ما يقرب من نصف دول الاتحاد الأوروبي.
ومع دخول العدوان على قطاع غزة عامه الثاني، فقد تزايدت حصيلة الخسائر الفلسطينية المباشرة، المرتبطة بالعدوان المدعوم من غرب الناتو، كل يوم في ظل اللامبالاة السلبية والمذنبة من جانب الحكومات الغربية وجزء من الرأي العام، الذي تم تخديره من قبل وسائل الإعلام الغربية.
وهذا هو التقييم اعتباراً من 25 تشرين الأول 2024:
بالنسبة لغزة: 42,847 شهيداً من بينهم أكثر من 16,859 طفلاً، وأكثر من 100,544 جريحاً، بينهم ما لا يقل عن 176 طفلاً حديث الولادة، و710 أطفال تحت سن 12 شهراً.
في الضفة الغربية: 760 شهيداً، بينهم 166 طفلاً، وأكثر من 6250 جريحاً.
إجمالي حصيلة ضحايا فلسطين: 43607 شهيداً وأكثر من 106796 جريحاً، أكثر من 10.000 مفقود، يضاف إليها الخسائر غير المباشرة لهذه الحرب من سوء التغذية، ونقص الرعاية، وتفشي الأوبئة.
بين 19 حزيران 2024، تاريخ التقرير الذي نشرته مجلة “لانسيت” (37396 شهيداً في غزة) و24 تشرين الأول 2024 (42847 شهيداً في غزة)، تم إحصاء أكثر من 5450 حالة وفاة مباشرة إضافية، وهو ما يدل على أن التطهير العرقي مستمر بوتيرة مستدامة، خاصةً وأن نفس النوع من “المذبحة الصناعية” بدأ في لبنان بدعم من الولايات المتحدة وألمانيا اللتين تزودان معظم الأسلحة للكيان المحتل ولسفاحي تل أبيب، وبالمثل مسؤولية الإعلام الغربي الذي يسكت طوعاً عن حجم الخسائر الفلسطينية.
وفيما يخص جنوب لبنان، فقد بلغت الخسائر البشرية المسجلة في 24 تشرين الأول ، 2574 شهيداً و12001 جريحاً منذ 8 تشرين الأول 2023، منهم 1924 شهيداً، و5599 جريحاً في شهر واحد منذ 23 أيلول 2024.
وفيما يتعلق برد الكيان المحتل على الضربة الإيرانية على أراضيها الذي تم في ليلة 25 إلى 26 تشرين الأول، فقد كان بمثابة مسرحية واسعة النطاق لجذب انتباه الرأي العام الإسرائيلي أكثر من كونها ضربة فعالة ألحقت أضراراً جسيمة بالقدرات العسكرية الإيرانية.
في سياق متصل، تم رفع دعوى قضائية ضد الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية من قبل حكومة جنوب أفريقيا، وانضمت إلى هذا الإجراء عدد من الدول الأخرى مثل بلجيكا والمكسيك. وغني عن القول إن هذا الإجراء يثير استياء الكيان الصهيوني وداعميه الذين ينكرون حدوث إبادة جماعية، فهم يعترضون عليها على أساس تعريفهم الخاص للإبادة الجماعية الذي لا يتوافق إلا جزئياً مع ما احتفظت به اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهي اتفاقية اعتمدتها الأمم المتحدة في عام 1948 ولها طابع عالمي. وأي حقوقي حسن النية يرى أن خطر الإبادة الجماعية في غزة، حقيقي ومثبت ويجب القيام بما يلزم لتفادي حدوثه بشكل كامل.
إن نية الإبادة الجماعية تحظى بمصداقية أكبر، لأنها ظلت موجودة في الخطاب الصهيوني لسنوات عديدة، وهي واضحة في الشعار الصهيوني “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وهاهو المؤرخ الجزائري زاكاري فوستر يذكر بإيجاز بعمر ومحتوى خطاب الإبادة الجماعية الذي يمارسه الصهاينة، ويشير إلى أنه منذ ما يقرب من قرن من الزمان، أصدر القادة الصهاينة والإسرائيليون إعلانات الإبادة الجماعية ضد العرب والفلسطينيين، وبدأ الأمر باتهام الفلسطينيين أنفسهم بأنهم مرتكبو إبادة جماعية، وبالتالي يمكن مقارنتهم “بالحيوانات، أو النازيين أو العمالقة”.
ويضيف أنه منذ الثلاثينيات، أقنع القادة الصهاينة أنفسهم بأن العرب الفلسطينيين كانوا مرتكبي إبادة جماعية، وقد أدرك الصهاينة في وقت مبكر جداً أنه لا يوجد مبرر أفضل للعنف ضد الفلسطينيين من القول إنهم يريدون إبادتهم.
في آب 1947، ردد زعيم الجالية الصهيونية في فلسطين، ديفيد بن غوريون، هذا الرأي: “إن هدف الهجمات العربية على الصهيونية ليس السرقة أو الإرهاب أو وقف النمو الصهيوني، بل التدمير الكامل، إنهم ليسوا “خصوماً سياسيين”، بل “تلاميذ ومعلمي هتلر، الذين يزعمون أن هناك طريقة واحدة فقط لحل المسألة اليهودية: الإبادة الكاملة”.
وبعد أشهر قليلة اندلعت حرب 1948، وبدأت آلة الدعاية الصهيونية في العمل، وقام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتوزيع منشورات تشبه “العدو العربي بعماليق، الشعب التوراتي” الذي أمر الإسرائيليون بإبادتهم، ونشر القادة الصهاينة فكرة أن العرب يريدون “رمي اليهود في البحر”.
ومع ذلك، أمضى المؤرخ الإسرائيلي شاي حزقاني 15 عاماً في البحث عن مثل هذه الادعاءات في المصادر العربية، ولم يجد شيئاً، ولا إشارة واحدة إلى إلقاء اليهود في البحر، ووفقاً له، “انطلاقاً من الوثائق التي جمعتها لكتابي الأخير، فإن الادعاءات بوجود خطة عربية لإلقاء اليهود في البحر” هي في الواقع متجذرة في الدعاية الصهيونية الرسمية.
بدأت هذه الدعاية أثناء الحرب، ربما لتشجيع المقاتلين اليهود على ترك أقل عدد ممكن من الفلسطينيين في المناطق التي ستصبح جزءاً من “إسرائيل”، ففي نهاية المطاف، كانت الإبادة الجماعية للفلسطينيين حلماً صهيونياً تحقق: “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.
إن الفكرة المزعومة “إنهم يريدون قتلنا جميعاً” متأصلة بعمق في المجتمع الإسرائيلي. لقد كان اسحق رابين هو الذي أصبح معروفاً بفضل رسائل حملته للإبادة الجماعية، وفي عام 1992، وعد “بإبقاء غزة خارج تل أبيب”، مضيفاً في لحظة غافلة: “أود أن أرى غزة تغرق في البحر”. وبعد فشل عملية أوسلو واندلاع الانتفاضة الثانية التي قُتل فيها أكثر من ألف إسرائيلي وثلاثة آلاف فلسطيني، انتشرت خطابات الإبادة الجماعية كالنار في الهشيم، وكلما اشتدت المقاومة الفلسطينية ضد التفوق اليهودي، كلما أصبح خطاب الإبادة الجماعية أكثر وضوحاً، وهو الاتجاه الذي أصبح واضحاً منذ السابع من تشرين الأول 2023، ولكنه كان عالياً وواضحاً قبل ذلك بوقت طويل.
إن المبررات الدينية للإبادة الجماعية التي قدمها الزعماء الروحيون في “إسرائيل” كانت تضاهيها المبررات السياسية والعسكرية التي قدمها التيار الرئيسي في البلاد، وفي تشرين الثاني 2012، أثناء الحرب على غزة، دعا جلعاد شارون، الناشط في “حزب كاديما” الذي ينتمي إلى يسار الوسط، الجيش الإسرائيلي إلى “تدمير غزة بالكامل”. واستغل قادة الاحتلال الإسرائيليون هذه الحادثة لاعتقال المئات من مسؤولي حركة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبالتالي إعلان الحرب. وفي غضون أسابيع، أعلنت “إسرائيل” حرباً شاملة على غزة، مما أسفر عن مقتل 2251 فلسطينياً، معظمهم من المدنيين، خلال هجومها الذي استمر 51 يوماً في تموز 2014.
وخلال الهجوم على غزة، نشرت النائبة الإسرائيلية أييليت شاكيد، وهي عضو في أحد الأحزاب الرئيسية في الائتلاف الحكومي، رسالة على فيسبوك تصف فيها الشعب الفلسطيني بأكمله بأنه أهداف مشروعة، ثم أعلنت أن “الأمهات الفلسطينيات يلدن ثعابين”، وهو ما يرقى إلى مستوى الدعوة إلى ذبح مئات الآلاف من النساء الفلسطينيات في سن تربية الأطفال في غزة. وطوال الوقت، استمر القادة الإسرائيليون في مقارنة الفلسطينيين بالنازيين.
وبحلول عام 2018، أصبحت أعلى المستويات في المؤسسة السياسية الإسرائيلية تمارس الإبادة الجماعية بشكل علني، وكما كان الحال في عامي 2012 و2014، تم تأطير خطاب الإبادة الجماعية في سياق المقاومة الفلسطينية للقهر، ومنذ 7 تشرين الأول انتقل خطاب الإبادة الجماعية من الهوامش إلى كل ركن من أركان التيار الإسرائيلي الرئيسي.