الموازنة العامة للدولة لعام 2025.. أسئلة وقضايا للنقاش
الدكتورة ليندا علي إسماعيل
تقدر الاعتمادات الأولية في مشروع موازنة 2025 بمبلغ 52600 مليار ليرة، ما يعني أنها ارتفعت بنسبة 48% مقارنة بموازنة 2024 عند تقديرها بالليرة السورية، وبنسبة 25% عند تقديرها بالدولار الأمريكي (قدرت بنحو 3.1 مليار دولار بسعر صرف 11500 في موازنة 2024، لتصبح 3.9 مليار دولار بسعر صرف 13500 في مشروع موازنة 2025).
انخفضت نسبة الإنفاق الجاري من الاعتمادات من 75% في موازنة 2024 إلى 70% في مشروع موازنة 2025. بالمقابل، ارتفعت نسبة الإنفاق الاستثماري من الاعتمادات الكلية من 25% في موازنة 2024 إلى 30% في مشروع موازنة 2025. ويلاحظ أن الإنفاق الاستثماري مقدراً بالدولار قد ارتفع في مشروع موازنة 2025 بنسبة 41% مقارنة بموازنة 2024 (ارتفع من 0.78 مليار دولار عام 2024 إلى 1.1 مليار دولار عام 2025).
بحسب كل من رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية، تم الحرص على اعتماد سياسة مالية توسعية إلى أقصى الحدود الممكنة بهدف تقديم جرعة إضافية لتحريك عجلة الإنتاج الوطني، وكذلك تحريك الطلب الكلي من خلال زيادة الإنفاق.
فهل السياسة المالية في مشروع موازنة 2025 توسعية بالفعل؟
في الواقع، بالرغم من زيادة اعتمادات مشروع موازنة 2025 مقارنة بموازنة 2024 إلا أنها انخفضت مقارنة بموازنات 2021 و2022 و2023، إذ بلغت تقديرات موازنات هذه الأعوام 6.74 مليار دولار (بسعر صرف 1256 ليرة سورية للدولار)، 5.3 مليار دولار (بسعر صرف 2512 ليرة للدولار)، و5,5 مليار دولار (بسعر صرف بحدود 3000 ليرة)، على الترتيب. بكل الأحوال فإن الحكم على توجه السياسة المالية يحتاج إلى الأخذ بالاعتبار لعدة أمور منها كيفية تقدير الإيرادات والنفقات ودقتها وتبويبها في الموازنة، فعند الاعتماد على الأرقام المنشورة نحتاج إلى معرفة ما الذي يقيسه هذا الرقم، وما الذي يستبعده.
بالنسبة لطريقة التبويب، من الملاحظ أن وزارة المـاليـة تعمل منـذ عـام 2012 على إظهـار كـامـل الـدعم الـذي تتحملـه الـدولـة لحوامـل الطـاقـة في جـانـب النفقـات للموازنـة العـامـة للـدولـة، وذلك خلافاً لما كان متبعاً في موازنات السنوات السابقة. كما أنه واستثناءاً من القوانين والأنظمة النافذة لبعض الجهات العامة ذات الطابع الإداري التي تعَدّ وحدات حسابية مستقلة وترتبط بالموازنة العامة للدولة وفق مبدأ الصوافي، فقد تمَّ إظهار موازنات هذه الوحدات في الموازنة العامة للدولة في السنوات الأخيرة بكامل تقديرات نفقاتها وإيراداتها. هذا الأمر يؤدي إلى إظهار الاعتمادات بمقدار أكبر مما تبدو عليه في حال إظهارها وفق مبدأ الصوافي. وعليه، فإنه من المشروع قبل مقارنة أرقام موازنة 2025 بسابقاتها ووضع نتائج وأحكام بخصوصها أن نتساءل عن طريقة التبويب المعتمدة في مشروع موازنة 2025، وهل تم إظهار الدعم بالكامل أو معاملة الوحدات الحسابية المستقلة وفق مبدأ الصوافي.
كما أن الاستناد لأرقام الموازنات التقديرية للحكم على السياسات المالية ومقارنتها يتطلب أن تكون هذه التقديرات واقعية بحيث تكون نسب التنفيذ الفعلية مرتفعة. على سبيل المثال، بلغت نسب التنفيذ الفعلي لموازنات العامين 2012 و2013 حوالي (50%) و(62%) على الترتيب. كما بلغت نسبة تنفيذ الإنفاق الاستثماري خلال النصف الأول من عام 2020 (23 بالمئة فقط) من إجمالي الاعتماد النهائي. وعليه، فإن التحليل باستخدام أرقام هذه الموازنات التقديرية يعتبر مضلل في هذه الحالة، فالعبرة ليست بزيادة الانفاق المقدر وإنما بزيادة الانفاق الفعلي. وفي هذا الإطار من المهم الإشارة إلى أهمية تقدير أرقام الموازنة بالاستناد إلى البيانات الفعلية للنفقات والإيرادات للعام أو العامين السابقين وتحليلها ليكون هذا التقدير أكثر دقة، مما يلقي الضوء على أهمية إعداد وتدقيق الحساب الختامي للسنة المالية المنتهية بسرعة. يعتبر هذا الأمر أحد المشاكل الرئيسة فيما يتعلق بمالية الدولة خلال فترة الحرب. إذ يلاحظ تأخر صدور قوانين الحسابات الختامي خلال فترة الحرب (صدرت قوانين قطع الحساب للأعوام 2011، 2012 و2013 في الأعوام 2015، 2018 و2019 على الترتيب، وبتاريخ 20-10-2021 صدرت قوانين الحسابات الختامية لموازنات الأعوام 2014، 2015 و2016، كما صدر في عام 2023 قانون الحساب الختامي لموازنة العامين 2021 و2022 دون نشر نسب التنفيذ الفعلية التفصيلية).
نقطة أخرى من المهم الإشارة إليها، وهي أن عديد من الاقتصاديين يستخدمون التغيُّرات في رصيد الموازنة كأسلوب سريع لتقييم ما إذا كانت السياسة المالية الحالية توسعية أو انكماشية، إذ إنَّ السياسة المالية التوسعية (زيادة الإنفاق الحكومي أو تخفيض الضرائب) تجعل فائض الموازنة أصغر أو عجزها أكبر، والعكس في حال السياسة المالية الانكماشية.
سجل عجز الموازنة الفعلي أكثر من 11 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي كمتوسط خلال السنوات 2011 – 2022 مع الإشارة إلى أن نسبة العجز الفعلي في الموازنة العامة للدولة بلغت 45 بالمئة عام 2022، و41 بالمئة عام 2023. فهل هذا يعني أن السياسة المالية كانت توسعية خلال هذه الأعوام؟
وقد صرح وزير المالية بأن نسبة العجز إلى الاعتمادات انخفضت من 26% في موازنة 2024 إلى 21% في موازنة 2025 علماً أنها كانت 29% في موازنة 2023 و31% في موازنة 2022. فهل هذا الانخفاض في نسبة العجز يعتبر مؤشر على أن السياسة المالية تصبح انكماشية في موازنة 2025، بعكس ما صرح به وزير المالية ورئيس مجلس الوزراء؟
للإجابة على هذه الأسئلة من المهم أن ندرك أولا أن استخدام رصيد الموازنة لتقييم توجُّه السياسة المالية يعتبر في كثير من الأحيان مضللاً لأسباب عديدة منها إمكانية وجود مشاكل في قياس رصيد الموازنة تتعلق بشكل رئيسي بالتضخم وبالدورة الاقتصادية.
وفيما يتعلق بمشكلة التضخم، يبدو من المهم قياس رصيد الموازنة ومديونية الحكومة بالقيمة الحقيقية، وليس بالقيمة الاسمية. فالإنفاق الحكومي يجب أن يشمل الفائدة الحقيقية المدفوعة على الدين وليس الفائدة الاسمية لأنَّ الفرق بينهما، وهو معدل التضخم، يجعل العجز في الموازنة أعلى من قيمته في حال كان التضخم موجباً وأقل من قيمته في حال كان التضخم سالباً. عندما يكون التضخم مرتفعاً، تكون الحاجة لتصحيحه وأخذه بالاعتبار في أرقام عجز الموازنة والدين الحكومي كبيراً. إن عدم مراعاة هذا الأمر يجعل تقييم السياسة المالية غير دقيق.
توجد أيضا علاقة قوية بين رصيد الموازنة والدورة الاقتصادية. إذ تميل الموازنة إلى العجز عندما يواجه الاقتصاد ركوداً، ويميل العجز إلى الانخفاض أو حتى يتحول إلى فائض عندما يتوسع الاقتصاد. هذه العلاقة بين رصيد الموازنة والدورة الاقتصادية لا تقدم دليلاً على أنَّ صانعي السياسة يقومون بتطبيق سياسة مالية توسعية خلال فترات الركود وسياسة انكماشية خلال فترة الانتعاش الاقتصادي ومن هذا المنطلق لا يعتبر زيادة العجز في موازنات فترة الحرب مؤشراً للسياسة التوسعية. كما أن الانخفاض في عجز موازنة 2025 مقارنة بموازنة 2024 لا يتعبر بالضرورة مؤشراً لسياسة انكماشية.
في الواقع، في كثير من الأحيان تكون العلاقة بين رصيد الموازنة والدورة الاقتصادية انعكاساً لعمل عوامل الاستقرار التلقائية. ففي فترات الركود، حتى عندما تكون النفقات العامة ومعدل الضريبة ثابتين، ينخفض الدخل مما يؤدي بدوره إلى انخفاض الإيرادات الضريبية الصافية للدولة، ومن ثمَّ زيادة عجز الموازنة، وهو ما حصل خلال فترة الحرب. ويحصل العكس في فترات الانتعاش، حيث تميل إيرادات الضرائب إلى الارتفاع وبعض التحويلات الحكومية، مثل مدفوعات إعانات البطالة، إلى الانخفاض نتيجة زيادة الدخل مما يؤدي إلى انخفاض عجز الموازنة، حتى دون أي إجراء متعمَّد من جانب صانعي السياسة.
عند تقييم السياسة المالية، يكون إذاً من المفيد تمييز التغيُّرات في رصيد الموازنة الناتجة عن الدورة الاقتصادية وعوامل الاستقرار التلقائية عن تلك الناتجة عن القرارات والإجراءات المتعمَّدة التي يتّخذها صانعو السياسة فيما يتعلق بالنفقات والتحويلات الحكومية أو الضرائب.
بحسب تصريح وزير المالية فإن الإيرادات في موازنة 2025 ستكون بشكل أساسي من الضرائب المعمول بها حالياً، إضافة إلى تحسين الإيرادات من خلال تعزيز العائد على إدارة أملاك الدولة. هذا الكلام يعني أن السياسة المالية ليست توسعية اختيارية متعمدة من قبل السلطة المالية وإنما هي ناتجة عن نمو اقتصادي متوقع وبالتالي عن عوامل استقرار تلقائي متوقعة. وفي هذه الحالة، يكون انخفاض العجز نتيجة وليس سبباً لزيادة النمو الاقتصادي بخلاف ما ورد في تصريح وزير المالية ورئيس مجلس الوزراء بأن “التخفيض في عجز الموازنة المقدر مفيد لأنه عبارة عن حالة صحية تعزز من معدلات أو وتائر النمو في الاقتصاد”. ويبقى السؤال، ما هو معدل النمو الاقتصادي المتوقع لعام 2025 الذي اعتمدته السلطة المالية في تقديراتها للإيرادات، وفي حال توقع زيادة النمو، على أي أساس تم بناء هذا التوقع؟ وهل التخفيض في عجز الموازنة يعبر عن حالة صحية بالضرورة؟
يرتبط هذا السؤال في الواقع بمفهوم المفاضلة بين الموازنة المتوازنة مقابل السياسة المالية المثلى وهي قضية أخرى تعتبر مثار جدل في الأدبيات الاقتصادية.
يوجد في الواقع وجهات نظر متناقضة بهذا الخصوص. من جهة، يؤيد عديد من الاقتصاديين وصانعي السياسة فرض الانضباط المالي من خلال إدخال التشريعات التي تفرض التوازن الحسابي في الموازنة أو التي تضع حداً أعلى للعجز. من مسوّغاتهم: القلق إزاء العجز المفرط في بعض الأحيان والرغبة في الحد من ممارسات بعض السياسيين الذين يميلون إلى تحقيق العجز في الموازنة لأنَّ ذلك يتيح لهم تلبية احتياجات الناخبين من خلال تخفيض الضرائب دون خفض الإنفاق أو زيادة الإنفاق دون زيادة الضرائب.
من جهة أخرى، يعارض عديد من الاقتصاديين قاعدة توازن الموازنة باعتبارها يمكن أن تقوّض دور عوامل الاستقرار التلقائية. فعندما يتّجه الاقتصاد إلى الركود تنخفض الضرائب وترتفع التحويلات تلقائياً. على الرغم من أنَّ هذه الاستجابة التلقائية تساعد على استقرار الاقتصاد إلا أنها تدفع الموازنة إلى العجز. في حال وجود قاعدة صارمة بأن تكون الموازنة متوازنة يكون على الحكومة في هذه الحالة أن تتّبع سياسة مالية انكماشية (رفع الضرائب أو تخفيض الإنفاق) لتحافظ على الموازنة متوازنة بالرغم من أنَّ هذه السياسة من شأنها أن تؤدي إلى تعميق الركود. وعليه، برأي عديد من الاقتصاديين، يجب أن توازن الحكومة موازنتها فقط في المتوسط بحيث يتم السماح بعجز في السنوات السيئة وفائض في السنوات الجيدة. في هذه الحالة، يكون عجز الموازنة في فترات الركود عجزاً مقصوداً بهدف تحفيز الاقتصاد وزيادة الدخل وبالنتيجة، زيادة حصيلة الضرائب والإيرادات وتخفيض الإعانات التي تمنَح للعاطلين أو المشروعات. من هذا المنطلق، لا يعتبر انخفاض عجز الموازنة بالضرورة حالة صحية، فالمهم برأينا هو التوازن الاقتصادي وليس التوازن الحسابي.
إصلاح سياسة الرواتب والأجور: ضرورة اقتصادية
صرح رئيس مجلس الوزراء عند استعراضه البيان الوزاري أمام مجلس الشعب بأنه”لن يكون هناك قدرةٌ على مضاعفة الرواتب والأجور أو زيادتِها إلى مستوياتٍ تلبي رغبات المواطنين ورغباتِنا العاطفيةِ والنفسيةِ”. فهل هدف مضاعفة الرواتب والأجور هو تلبية الرغبات العاطفية والنفسية أم هو ضرورة اقتصادية؟
إن زيادة التراكم الرأسمالي وحده لا يكفي لتحقيق النمو بحسب نماذج النمو الداخلية كونه يصطدم في نهاية المطاف بتناقص العائد. وعليه، من المهم أن يكون التراكم الرأسمالي وتدفقات رؤوس الأموال في إطار تعزيز الإنتاجية من خلال التأثير على التكنولوجيا وكفاءة الاستخدام، بحيث يكون الأثر ايجابي على النمو الاقتصادي. لتحقيق هذا الأثر الإيجابي من المهم توفر رأس المال البشري القادر على نقل وتكييف التكنولوجيا. الاستثمار في رأس المال البشري يبدو إذاً ضروري.
واجهت سورية خلال الحرب خسائر كبيرة في رأس المال البشري بالإضافة إلى خسائر رأس المال المادي، كما خسر العمل كثير من المهارات الإنتاجية بسبب التأثير المعوق للحرب وسفر عديد من الكفاءات خارج البلد. إن استعادة رأس المال البشري وتطوير مهاراته يتطلب بالتأكيد توفير حد أدنى للرواتب والأجور يكفي على الأقل لمستلزمات حياته. عندما يكون العمال راضين عن أجورهم، فإنهم يعملون بجد أكبر وتزداد انتاجيتهم.
بالمقابل، فإن انخفاض الأجور يؤدي لفقدان الكثير من المهارات والقوة العاملة مما ينعكس سلباً على الإنتاج. كما إن انخفاض الرواتب والأجور وعجزها عن تلبية المستلزمات الأساسية لحياة المواطن تؤدي لتفاقم الفساد وما يترتب عليه من آثار سلبية على موارد الدولة وايرادات مؤسساتها.
من المهم أيضا تنسيق الحد الأدنى للأجور بشكل وثيق مع نظام الضرائب والمزايا للحد من الآثار السلبية المحتملة على العمالة ولضمان أن الزيادات في الحد الأدنى للأجور تضيف بالفعل إلى الدخل الصافي للمستفيدين المقصودين. يمكن استخدام الحد الأدنى للأجور على سبيل المثال كمرجع لأدوات السياسة الأخرى مثل تحديد الحد الأدنى لمساهمة الضمان الاجتماعي للموظف وصاحب العمل أو لتحديد الحد الأقصى لمبلغ الإعفاءات الضريبية للأسر.
بكل الأحوال، وكما يؤكد الاقتصادي جيمس توبين، الذي عمل كعضو في مجلس المستشارين الاقتصاديين لإدارة كينيدي، من المهم “القلق بشأن المستهلكين الصامتين، وليس فقط المنتجين الصاخبين”.
سؤال آخر يثير الاهتمام يتعلق بأثر زيادة الرواتب والأجور في التضخم. هل التضخم سيظل مرتفعاً أو حتى يتسارع إذا حصل العاملون في القطاع العام على زيادات تتماشى مع التضخم؟ إن الإجابة على هذا السؤال يعتمد على طريقة تمويل زيادة الرواتب والأجور. إذا تم التمويل عن طريق زيادة الضرائب على المنتجات البترولية على سبيل المثال سيرتفع سعر السلع والخدمات الأساسية مما يمكن أن يكون له آثار تضخمية. بكل الأحوال، بالنسبة للاقتصاد السوري، فإن الصدمات الأساسية للتضخم خلال فترة الحرب تأتي من خارج سوق العمل. لكن كيفية تكوين التوقعات تؤثر في ديناميكيات الأجور والأسعار وهو أمر من المهم أخذه بالاعتبار. فعندما تتوقع الشركات والأسر أن يكون التضخم في المستقبل كما هو عليه اليوم، يمكن أن تؤدي الصدمة التضخمية إلى مطالبة العمال بالمزيد للتعويض عن التضخم المرتفع في المستقبل. يمكن أن يؤدي هذا النوع من عملية التوقعات إلى ارتفاع التضخم لفترة طويلة حتى لو لم تكن هناك صدمات أسعار إضافية. وعليه، فإن فهم عملية التوقعات أمر بالغ الأهمية بالنسبة لواضعي السياسات النقدية.
مصادر الإيرادات والامتثال الضريبي:
تبلغ الإيرادات المقدرة في مشروع موازنة العام 2025 نحو 41550 مليار ليرة سورية، مرتفعة بنحو 58 بالمئة عن إيرادات العام 2024. وبحسب تصريح وزير المالية، فإن هذه الإيرادات ستكون بشكل أساسي من الضرائب المعمول بها حالياً، إضافة إلى تحسين الإيرادات من خلال تعزيز العائد على إدارة أملاك الدولة. وقد أكد وزير المالية أن مشروع موازنة العام 2025 لا تتضمن أي إضافات جديدة في الضرائب على مطارح جديدة. بخلاف هذه التصريحات الصحفية، لا تتوفر لنا بيانات أو معلومات تفصيلية بخصوص مصادر زيادة الإيرادات. مما يجعل كثير من الأسئلة تفرض نفسها:
هل تم توقع زيادة الإيرادات استناداً لتوقع زيادة النشاط الاقتصادي وبالتالي الدخل الخاضع للضريبة؟ هل سيكون جزء من زيادة الإيرادات ناتج عن رفع أسعار المحروقات والكهرباء وبالتالي زيادة تكاليف الإنتاج؟ كيف سيتم تعزيز العائد من أملاك الدولة؟
هل ستتم زيادة الرسوم والضرائب على المطارح الموجودة؟ وفي هذه الحالة هل تتحمل هذه المطارح زيادة الضرائب؟ فكما هو معروف، وفق مفهوم منحنى لافر،فإن (كثيراً من الضرائب تقتل الضرائب) إذ إن زيادة معدل الضريبة فوق معدل معين يؤدي لانخفاض الإيرادات الضريبية نتيجة انخفاض الحافز على العمل وزيادة الدافع للتهرب الضريبي.
وفي هذا الإطار يبدو موضوع الامتثال الضريبي هام جداً كونه يؤثر بشكل كبير على الإيرادات في أوقات الأزمات. يرى بعض الاقتصاديين أن تغاضي الدولة أثناء الأزمات عن عدم الامتثال يؤدي لانخفاض الإيرادات الضريبية تلقائياً وبدون أي تغيير في القوانين الضريبية، وهذا الأمر يكون بمثابة آلية استقرار تلقائي معاكسة للدورة الاقتصادية (الانكماش الاقتصادي) بحيث يؤدي انخفاض إيرادات الضرائب عند انخفاض الناتج المحلي إلى جعل آثار صدمات الطلب السلبية أقل. فمن خلال انخفاض مقدار الضرائب يتم في الواقع تنفيذ سياسة مالية توسعية تلقائية في مواجهة الركود. لكن تحمل عدم الامتثال يبقى ذو آثار تشويهية وغير منصف، وربما الأهم من ذلك، يعيق إعادة بناء القواعد الضريبية على المدى المتوسط لأنه بمجرد أن يصبح عدم الامتثال راسخاً فإنه يميل إلى المضي قدما في الفترات المستقبلية. وهذا من شأنه أن يجعل إعادة بناء القواعد الضريبية أكثر صعوبة مع انتعاش الاقتصاد.
من المهم بالتأكيد مساعدة دافعي الضرائب على التعامل مع ضغوط الأزمة حيث تواجه العديد من الشركات القابلة للاستمرار ضغوطًا مالية شديدة قد تتسبب في وقف عملياتها والخروج من النظام الضريبي، مما يؤدي إلى خسائر دائمة في الإيرادات، وهو ما شهدناه خلال فترة الحرب في سورية. في محاولة لمساعدة دافعي الضرائب، تنظر بعض البلدان في تطبيق العفو الضريبي وإيقاف مراجعة دافعي الضرائب، وإجراءات أخرى مماثلة. لكن هذه التدابير ليست أدوات فعالة لتحسين تحصيل الإيرادات بالضرورة كما أنها تخلق حوافز ضارة لدافعي الضرائب للتوقف عن الامتثال لقوانين الضرائب.
برأينا يمكن أن تشمل التدابير التي يمكن أن تعزز احتمالية بقاء دافعي الضرائب في النظام الضريبي تعديل الدفعات المسبقة وزيادة استخدام تأجيلات الدفع. من المهم أيضاً أن يتم أخذ التضخم بالاعتبار في فرض ودفع الضرائب، ففي حال وجود فرق بين تقدير الضريبة وفرضها وبين دفعها سيؤدي التضخم المرتفع لتخفيض الإيرادات الحقيقية للدولة. في هذه الحالة يكون من الضروري برأينا تعديل الضريبة مع التضخم. يتمثل أحد الأساليب الممكنة حساب ضريبة الدخل ودفع الضريبة على أساس ربع سنوي أو شهري بما يؤدي إلى حماية القاعدة الضريبية من التضخم.
طريقة اعداد الموازنة وأهمية الانتقال لموازنة الأداء:
الموازنة العامة في سورية هي موازنة تقليدية أي موازنة بنود. في هكذا نوع من الموازنات، لا يتم اتخاذ القرارات المتعلقة بتوزيع الاعتمادات بين أوجه الإنفاق المختلقة بالاستناد إلى إجراء دراسات تحليلية وتقديم بدائل والاختيار بينها بالاستناد إلى التكاليف والعوائد المقدَّرة لكل بديل. وعليه، يزداد الاعتماد في هذا النوع من الموازنات على أسلوب المساومة، إذ تقوم الوزارات بالمبالغة في تقدير احتياجاتها من الأموال في حين تميل إدارة الموازنة العامة إلى تخفيض تلك التقديرات. هذا الأمر تم انتقاده من قبل اللجنة الاقتصادية خلال مناقشتها لمشاريع موازنات الوزرات، إذ انتقدت عدم قدرة عدد من الجهات العامة على اقتراح خطط موضوعية وواقعية تراعي الإمكانات المالية المتوفرة واعتمادها أسلوب المساومة من خلال طلب أرقام اعتمادات استثمارية كبيرة ومبالغ فيها على أمل الحصول على جزء مهم من هذه الأرقام والمبالغ بعد التخفيض.
وفي هذا الإطار، يبدو الانتقال إلى تطبيق موازنة الأداء والبرامج مفيدا باعتباره يساعد في توزيع الإمكانيات المالية المتوافرة لدى الدولة بشكل أفضل من الموازنة التقليدية لأنها تقدم بيانات تفصيلية للجهات المختصَّة بتوزيع الاعتمادات عن البرامج والمشاريع المُراد تنفيذها وتكاليفها، وعن الإنجازات والنتائج المتوقَّع الحصول عليها، وبذلك فإنها تضعف أسلوب المساومة السائد في الموازنة التقليدية، بما يمكّن من السيطرة على الإنفاق العام. كما أنها توفر فهماً أفضل للأهداف والأولويات الحكومية ولكيفية مساهمة البرامج المختلفة في تحقيقها.
صرح وزير المالية بأن الوزارة تتجه في موازنة العام 2026 لتنفيذ جزء منها (موازنة بعض الوزارات) عبر موازنة البرامج والأداء على التوازي مع موازنة البنود. والسؤال، هل تتوفر الإمكانيات والشروط الضرورية للانتقال فعلياً لتطبيق موازنة الأداء والبرامج في موازنة 2026؟
في الواقع، يواجه تطبيق موازنة الأداء عدة صعوبات وتحديات، نذكر منها: ارتفاع تكلفة تطبيقها وصعوبته خاصة أنها تتطلب وجود أنظمة محاسبة ومتابعة وبرامج تدريبية لتأهيل كادر وظيفي قادر على تطبيق هذا النوع من الموازنات، صعوبة توفير المعلومات التفصيلية عن نشاطات الأجهزة الحكومية المختلفة خاصة عند عدم وجود أنظمة دقيقة للمعلومات لديها.كما تبرز أهمية التخطيط في هذا المجال، وهو أمر أكد عليه رئيس مجلس الوزراء. لكن التخطيط الجيد يتطلب المقدرة على التنبؤ بالظروف الاقتصادية المستقبلية لأنَّ ارتكاب أخطاء في التوقعات المستقبلية المتعلقة بالاقتصاد يمكن أن يقود إلى قرارات خاطئة بخصوص التغييرات التي يجب القيام بها في السياسة المالية اليوم خاصة وأن السياسة المالية تحتاج إلى وقت حتى تظهر آثارها.
باتجاه التشاركية مع القطاع الخاص:
بحسب البيان الحكومي، تنظر الحكومة إلى القطاع الخاص على أنه شريكٌ وطنيٌّ في التنمية الاقتصادية، وأنه يجب أن يكون حاضراً بقوة في بنية وتركيب الاقتصاد الوطني المعاصر إلى جانب القطاع العام.
في الواقع، توجد مجموعة حجج تبرر دور القطاع العام والانفاق العام خاصة فيما يتعلق بالسلع التي تمتلك خصائص السلع العامة التي لا يجوز استبعاد مواطن منها، أو السلع تحت الوصاية كالتعليم والصحة. بالمقابل، من المهم الإشارة إلى أن ضرورة إنتاج سلعة عامة من قبل القطاع العام لا يعتمد على خصائص استهلاكها، التي يرتكز عليها تعريف السلع العامة، وإنما على خصائص إنتاجها. فبعض السلع تمتلك، بالاستناد لخصائص استهلاكها، خصائص السلع العامة مما يبرر ضرورة الانفاق العام عليها من قبل الدولة، لكن ليس بالضرورة إنتاجها من قبل الدولة بحيث يمكن أن توكل الدولة انتاجها للقطاع الخاص. وهنا يبرز مفهوم الموازنة التعاقدية على أساس نظام عقد صفقات بين جهة منفذة والحكومة، لإقامة بعض المشاريع وانتاج بعض السلع والخدمات.
يقصَد بالموازنة التعاقدية إعداد الموازنة على أساس نظام عقد صفقات بين جهة منفذة (كشركة خاصة) والحكومة، حيث تقوم الحكومة بطرح مشاريعها بغرض التعاقد مع هذه الجهات على تنفيذها في الوقت المناسب بشرط أن تحقق تلك المشاريع الأهداف المخطَّط لها. من مزايا هذا النوع الموازنات أنَّها تساعد في تخفيف الأعباءالتمويلية عن الموازنة العامة للدولة من خلال تمويل جزء من الاستثمارات عن طريق القطاع الخاص. يساعد هذا الأمر في ترشيد الإنفاق العام وتخفيض عجز الموازنة العامة، مع الاستمرار بإشراف الحكومة على إنتاج السلع والخدمات التي تتم وفق أسلوب التعاقد على الأداء. لكن نجاح هذا الأسلوب في تحقيق أهدافه يتوقف على مدى امتلاك الحكومة لأهداف استراتيجية واضحة، ومدى قدرتها على ترجمة هذه الأهداف إلى متطلبات والتزامات يقع تنفيذها على عاتق المدراء التنفيذيين لتحويلها إلى مخرجات تحقق تلك الأهداف.
فهل يمكن أن نشهد انتقالاً للموازنة التعاقدية لبعض الوزارات في سورية في السنوات المقبلة تماشياً مع مفهوم التشاركية؟
صدر في عام 2016 القانون رقم5 المتعلق بالتشاركية بين القطاعين العام والخاص في سورية، كما أُحدث مجلس التشاركية. وقد تم منذ ذلك الوقت الإعلان عن بعض المشاريع للاستثمار من قبل القطاع الخاص وفق صيغة التشاركية. لكن نجاح التشاركية في تحقيق أهدافها يتطلب مجموعة من الأمور التي تشكل تحديات أمام السلطة المالية، منها: توفر البيئة التشريعية المحاسبية والضريبية المناسبة، والبيئة الاستثمارية والتجارية المناسبة لجذب المشروعات الاستراتيجية وإقناع القطاع الخاص بها، توفر الخبرة والكوادر المؤهلة، الشفافية فيما يتعلق بالعقود المبرمة، ومحاربة ظاهرة الفساد في الأنشطة الحكومية والتي يمكن أن تؤثر سلباً في اختيار المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية التي تلبي متطلبات المجتمع. كما يتطلب نجاح هذا الأسلوب وجود علاقة ثقة بين الطرفين المتعاقدين، ومثل هذه العلاقات يستغرق وقتاً طويلاً للتطوير ويتطلب تواصلاً جيداً ومستمراً. أكبر مثال على هذا التحدي ما أشار إليه مدير التخطيط والتعاون الدولي في وزارة الصناعة مؤخرا بخصوص الصعوبات التي تواجهها الشركات العامة الصناعية في جذب التجار للمشاركة في مناقصاتها، يتجلى ذلك بوضوح من خلال عزوف العديد من التجار عن التقدم للتعاقد معهاما ينعكس سلبا على عملها ويخلق عقبة أمام إنتاج الشركات الصناعية.
ختاما أود أن أشير إلى أن مهمتنا كاقتصاديين وأكاديميين محفوفة بالتحديات إذ علينا في كثير من الأحيان التعامل مع الغموض. فحتى النماذج الاقتصادية التي تقدم العديد من الأفكار والحلول، تترك العديد من الأسئلة مفتوحة. فلكل نموذج فرضياته وحدوده وبالتالي استخداماته. يضاف الى ذلك الغموض الذي يمكن ان يحيط بالوضع الاقتصادي أحياناً والذي يصعب معه معرفة الحل الأمثل أو الأقل سوءاً، وخاصة الغموض المتعلق بالبيانات والمعلومات. ومع عدم نشر البيان المالي التفصيلي لمشروع موازنة 2025 وعدم توفر الكثير من البيانات التفصيلية المتعلقة بها، تضمنت قراءتي ومناقشتي لمشروع موازنة 2025 الكثير من الأسئلة. بكل الأحول، وكما يقول ديفيد ماكميلان الحائز على جائزة الكيمياء هذا العام: “الأمر لا يتعلق أبدًا بالإجابات… الأمر دائمًا يتعلق بالأسئلة”.
إن الإجابة على هذه الأسئلة مهم فثقة المستثمرين والقطاع الخاص لا تتولد من تصريحات بخصوص تخفيض العجز وزيادة الإيرادات.. وإنما من الشفافية بهذا الخصوص ونشر الدلائل والبيانات بخصوصها بحيث تتضمن التقارير المنشورة، المتعلقة بالموازنة العامة أو بالسياسة المالية، بيانات تفصيلية وتحليلاً للظروف الاقتصادية الحالية والتوقعات الاقتصادية.