“كنت هناك” أفكار غير تقليدية وخيال مجنّح وغرائبي
أمينة عباس
مع كلّ إصدار جديد في الساحة الثقافية يحرص الوسط الثقافي على الاحتفاء به تشجيعاً لكاتبه وهو يخطو خطواته الأولى في دروب الكلمة، ليقول أبناء هذا الوسط له: “ها هي أيدينا نمدّها لك لتعبر عبورك الأول نحو عالم الكتابة، وها هي كلماتنا لتكون خير مُعين لك، نشاركك فرح الولادة الأولى ونباركها، وما عليك سوى الاستمرار”، وهو ما تضمنته كلمات المشاركين باحتفاء المركز الثقافي العربي في “أبو رمانة” بالتعاون مع “دار دلمون الجديدة” بإصدار المجموعة القصصية “كنت هناك” وهي الأولى للكاتبة روعة سنوبر التي تحدثنا قائلة: “ما يعجبني في عالم القصة هو أن القصة بالنسبة لي هي السهل الممتنع، إذ تجذبني القدرة على الولوج إلى هذا العالم والإحاطة بجوانبه بطريقة متقنة وبإيجاز، ما يجعل القصة بالنسبة إلي تحدياً لقدراتي كبناء وفن وأسلوب ولغة وخيال خصب والدخول لفكر القارئ ووجدانه، وكل ذلك بطريقة موجزة ومتقنة، لها سحرها الخاص، وجواز سفري هو ما تحتويه هذه المجموعة من تنوع يخصّ القارئ في أي مكان من هذا العالم، حيث تعمّدتُ التعميم في مواضيع القصص ليشعر كل قارئ أنه معنيّ بها، تحكي مشكلاته، فالإنسان هو هاجسي الأكبر ككاتبة تريد أن تعبّر عن آلامه وتطلعاته بشكل يؤثر بالقارئ ليجد نفسه داخل كل ما أكتبه عنه من خلال قصص متنوعة بالشكل والموضوع، تحاكي عوالم الصغار واليافعين والشباب والكبار، وهنا أؤكد أن الكتابة القصصية عالم له خصوصيته وتفرّده، وهي لا تشبه بقية الأجناس الأدبية مع أن كتابة قصة هادفة وجاذبة للقارئ ليست بالأمر السهل، فهي تحتاج إلى موهبة ومهارات معينة، لأن القارئ ذكي ولا يجب الاستهانة به، وهذا يتطلب من الكاتب تطوير نفسه وأدواته ليرقى إلى ذائقة القارئ”.
ولا يشكل الشكل الفني هاجساً لسنوبر أثناء الكتابة، ومع هذا تقول: “الشكل التقليدي له جمهوره ومحبوه، وأنا أحترم ذائقتهم، سواء أكانوا كتّاباً أم قراء، لكنني لم أجرب كتابة القصة التقليدية لأنها لا تشبهني، ولم أجد نفسي إلا في التجريب والقصة الحديثة، لأنها الأقرب إلى شخصيتي ككاتبة، وهي أكثر انفتاحاً وقدرة على كسر المألوف وتحثّ القرّاء على التفكير والسؤال والبحث عن الإجابة، لذلك تنوّعت قصصي في المجموعة بين القصص السوريالية الحالمة والقصص التي تعتمد على الرموز والدلالات عبر نهايات تطرح دوماً تساؤلات وتثير فكر وخيال القارئ”.
لا تخفي روعة سنوبر القاصة أن الرواية هي هاجسها الأول عندما تقول: “أجد نفسي أكثر في هذا العالم الواسع من السرد، لذلك هو أكثر إغراء لي ككاتبة، وقد بدأتُ بكتابة رواية، وهي تحتاج إلى وقت لتنضج بالطريقة التي أرغب بها وترقى إلى ذائقة القراء، وأعترف بأن محاولاتي الأولى في كتابة القصة كانت للتمرّن على كتابة الرواية، لكن مع الوقت اكتشفتُ أن لكل عالَم سحره وجماليته، فعالم القصّ الزاخر يختلف كثيراً عن عالم الرواية، ولكل منهما متعة معينة تختلف عن الأخرى، لكن ما هو مؤكد أن الرواية عالم أوسع وأشمل وتحتاج إلى تفكير منفتح وسعة ثقافة، فالخبرات الذاتية لا تكفي ويجب الانغماس في معرفة كيف يفكر الآخرون مع اكتشاف عوالمهم الداخلية وطريقة تفكيرهم، بالإضافة إلى تطوير الكاتب الدائم لأدواته مع القراءة المتعمقة والاطلاع، مع الإشارة إلى أنني أميل إلى الأدب العالمي بشكل عام لأنني نشأتُ على حب هذا النوع من الأدب، وهو ما حرَّضني على الكتابة، فـ”تشارلز ديكينز” هو من أكثر الكتّاب الذين أفضّلهم، وخاصة في رواية “أوليفر تويست” و”قصة مدينتين” بالإضافة إلى العديد من الأدباء أمثال “ديستوفيسكي”، و”كافكا”، و”ماركيز”، و”بيكيت”.
تكتب روعة سنوبر النثر، وضمّت المجموعة القصصية ملحقاً بعنوان “حديث آخر” فيه بعض كتاباتها النثرية، وهي تطمح إلى كتابة المسرح أيضاً: “لستُ مع التخصّص الذي هو بالنسبة إلي تقييد لقدراتي، وإن كان يفيد الكاتب في القدرة على التركيز وإتقان كتابة جنس محدّد، لكن التنوع يفتح للكاتب آفاقاً جديدة ليعبّر عن أفكاره وهواجسه بطرق متنوعة وآليات مختلفة”.
ويتحدث الناقد د. ثائر عودة عن الانطباع العام الذي يخرج به قارئ “كنت هناك” ويقول: “تبحث صاحبة الكتاب عن أسلوب مغاير للتعبير عن الأفكار الصغيرة أو الكبيرة والهموم الذاتية والعامة، فمنذ الإهداء نلمح هذا التوجّه المغاير، إذ تهدي الكتاب إلى أبطال هذه القصص الذين منحتهم الحياة والموت ومنحوها البقاء، وهذا الإهداء الغريب ينسحب على معظم مفاصل الكتاب ومنها المقدمة التي كتبتها الكاتبة وتخالف المألوف، حيث تفصح من خلالها للقارئ عن عالم حكاياته الذي سوف يتنوع ويتعدّد”.
وكتصنيف ركاب الطائرة إلى ركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال والدرجة العادية يصنّف د. عودة قصص المجموعة، مختاراً بعض النماذج الدالّة على كل تصنيف، ومجملاً في النهاية الصفات التي اتسمت بها قصص هذه المجموعة وجعلت منها مادة جديرة بالنقد والنقاش ويلخصها قائلاً: “أفكار غير تقليدية، مخالفة للسائد، وجديدة، وخيال مجنّح وغرائبي، واستهلالات مشوقة ولغة رشيقة صافية موظفة بشاعرية، وجمالية عالية، واتكاء على عالم الحيوان والاستفادة من دلالاته المتعددة، وسرد في معظمه بضمير المتكلم ما يجعل الحكايات أكثر إقناعاً، إلى جانب الانفتاح على الرموز والدلالات المتعددة”.
ويتوقف أ. عمر أيوب في حديثه عن المجموعة عند العنوان والغلاف ثم يتنقل بين قصصها فيخلص إلى القول: “كُتبت المجموعة بقلم قلق مراقب ملاحق في الشوارع، عارضته الكوابيس من عاديات الأيام، ربّما لأنّ الناس بشكل عام يميلون إلى التأثر بالأحداث السلبية أكثر، فهي التي تبقى وتدوم في الذاكرة، لذلك جاءت القصص ممزوجة بالخوف والغضب والحزن والوحدة والكآبة واليأس وصراخ الرفض لكلّ ما هو غير إنساني، لتقول الكاتبة إننا بحاجة ماسّة إلى المشاعر السلبية حتى وإن كنّا نرفضها ولا نرغب في تجربتها، لكنَّها تُشعرنا بقيمة المشاعر الإيجابية من فرح وسعادة وأمل من خلال مسارين اعتمدتهما الكاتبة في السرد، الأول واقعي كان الراوي فيه مشاركاً متفاعلاً مع الحدث، والثاني خارجي كان الراوي فيه مراقباً لتفاصيل الحدث عبر قوالب متعدّدة متفلّتة من لغة الكلمات المطرزة والمحسنات البديعية لتمسك الكاتبة بناصية كتابتها واشتغالها السردي بين الخاص والعام والداخل والخارج، مع تجليات إيمائية مشرعة على احتمالات تأويلية شتى ودلالات”.
وكمتابع لتجربة الكاتبة منذ بداياتها، يقول الكاتب بشار البطرس: “كانت من أفضل الأسماء التي شاركت في ورشة الكتابة التي كنتُ مشرفاً عليها في اتّحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين، وهي تتحلى بانفتاحها على النقد وقابليتها للنقاش والملاحظات وقدرتها في الدفاع عن نصها بشكل منطقي، ولأن الخيال من أكثر الأمور التي يجب أن يتحلى به الكاتب أهمية إلى جانب قدرته على تأليف الحبكات المشوقة ومزج الشخصيات التي يعرفها ليقدّم شخصيات تقنع القارئ فإن لعبة الخيال هي ما تميّز قصص سنوبر بين خيال بسيط في بعضها وخيال أصعب يقوم على كذبة واقعية تجرّ القارئ ليصدقها، وهنا أنصح الكاتبة دوماً بلجم خيالها بعض الشيء وهي التي تشطح به كثيراً، خصوصاً في القصص المكتوبة بتقنية السيناريو العالية”.
وتسنى للإعلامية هدباء العلي قراءة المجموعة وهي ما زالت مخطوطاً، تقول: “ما كنت أتصور أن تشدّني إلى تلك الدرجة، وقد بدأت فيها أنتقل من عنوان إلى آخر، أما المفاجأة فكانت الأبعاد النفسية والفلسفية والرمزية التي انطوت عليها القصص، كذلك التباين بين موضوعاتها وأسلوب السرد فيها والشجاعة في مقاربة قضايا اجتماعية وإنسانية تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية والمسائل الشائكة عبر تقنيات مركبة في أسلوب القص وتحميل الرمز والغوص في النفس البشرية، ما يدعو القارئ إلى إعمال عقله وشدّ حواسه لالتماس المعنى والغاية، مع الإشارة إلى غلبة السوداوية على الأسلوب الذي جاء متناغماً مع طبيعة الأحداث التي تتناولها الكاتبة”.