دراساتصحيفة البعث

“خطة الجنرالات” لإفراغ شمال غزة

سمر سامي السمارة

أجبر جيش الاحتلال الإسرائيلي عشرات الآلاف من الفلسطينيين الموجودين في مراكز الإيواء بشمال غزة على النزوح في مسيرة موت منذ 21 تشرين الأول، حيث يتم إخلاء شمال غزة من سكانها، من خلال الاستراتيجيات التي تنتهجها “إسرائيل” لتحقيق هذا الهدف، وهي القضاء على المؤسسات الاجتماعية القليلة المتبقية في المنطقة، ومنها المستشفيات.

في إطار هجومها المستمر على شمال غزة، تحاول قوات الاحتلال الإسرائيلي تطهير المنطقة الواقعة شمال مدينة غزة بالكامل، ومع وجود ما لا يقل عن 200 ألف شخص هناك، يخشى الكثير منهم، وفقاً لشهادات محلية، أن يتم استهدافهم في طريقهم إلى الجنوب أو في “المناطق الآمنة” التي حددتها “إسرائيل”، والتي تتعرض للقصف بشكل متواصل على مدى الأشهر الأخيرة.

كما يشمل الحصار المستمر حصاراً ثانياً داخل الحصار على مخيم جباليا للاجئين، مصحوباً بحملة قصف جوي مكثفة تجبر عشرات الآلاف من المدنيين على مغادرة منازلهم، حيث توجه العديد منهم إلى بيت لاهيا، وخاصة إلى مستشفى كمال عدوان، الذي كان على مدار الأيام الأخيرة الماضية، يبعث بنداءات استغاثة يومية، محذرة من كارثة إنسانية وشيكة.

وللإشارة، فإن مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا هو أحد المستشفيات الثلاثة العاملة في محافظة شمال غزة، وهو المركز الطبي الوحيد الذي يعمل بكامل طاقته في الشمال، ويضم قسماً متخصصاً للأطفال حديثي الولادة، بينما يعمل المستشفيان الآخران في غزة بالكاد، فقد خرج المستشفى الإندونيسي عن الخدمة بعد أن حاصرته قوات الاحتلال الإسرائيلية واجتاحت محيطه. أما مستشفى العودة في جباليا، الأصغر حجماً، فقد علقت معظم خدماتها ولا تعمل إلا بقدرة محدودة.

وفي 22 تشرين الأول، قال مدير مستشفى العودة بكر أبو صفية، إن طائرات إسرائيلية بدون طيار كانت تطلق النار مباشرة على المستشفى. من جهته، قال الدكتور بيكر، إن الطائرات الإسرائيلية كانت تفتح النار أيضاً على أي شخص يتحرك في الشوارع، بما في ذلك سيارات الإسعاف. ووفقاً لمدير المستشفى، استهدفت غارة إسرائيلية سيارة إسعاف كانت تحمل أمّاً كانت قد وضعت للتو مولودها. وقال الطبيب بيكر إن الأم استشهدت، وعثرت فرق الإنقاذ على الطفل حياً في وقت لاحق، وتم نقله إلى قسم حديثي الولادة في مستشفى كمال عدوان.

استهداف المستشفيات لإفراغ شمال غزة

أصبحت المستشفى، التي سُميت على اسم كمال عدوان، أحد زعماء المقاومة الفلسطينية الذي اغتالته “إسرائيل” في بيروت عام 1973، وجهة مركزية للمصابين والنازحين. ومثلها كمثل معظم المستشفيات الأخرى في غزة خلال العام الماضي من حرب الإبادة الجماعية، أصبحت مستشفى كمال عدوان المكان العام الوحيد المتبقي في شمال غزة التي تقدم الخدمات وتوفر المأوى، وتمثل العمود الفقري للمجتمع الأهلي في غزة والتماسك الاجتماعي هدفاً للقصف ” الاسرائيلي، وبالتالي طرد السكان بالقوة، وذلك خدمة للخطة الإسرائيلية لإفراغ الشمال، والتي أصبحت تُسمى الآن بـ “خطة الجنرالات”.

قبل فرض “إسرائيل” الحصار الحالي بمدة قصيرة، أخبر نتنياهو المشرعين الإسرائيليين أنه يدرس “خطة الجنرالات”، والتي سميت بهذا الاسم نسبة إلى الاقتراح الذي قدمه كبار المسؤولين في جيش الاحتلال الإسرائيلي في أوائل أيلول الماضي بناءً على رؤية الجنرال الإسرائيلي المتقاعد جيورا إيلاند، الذي كتب مقال رأي قبل عام يشرح خطة  إفراغ شمال غزة من سكانها بالكامل من خلال المجاعة الجماعية والإبادة.

إن الخطة هي نسخة محسنة لما كانت “إسرائيل” تفعله بالفعل خلال العام الماضي، بما في ذلك استهداف المستشفيات وإخلائها بالقوة، فقد داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلية مستشفى الشفاء في مدينة غزة لأول مرة في تشرين الثاني الماضي، عندما كان المجمع ومحيطه مكتظاً بالعائلات المهجرة، وأجبرت الأطباء والمرضى والنازحين على المغادرة. ولكن في شباط، عندما بدأت القوات الإسرائيلية بالانسحاب من أجزاء من غزة، عاد الفلسطينيون إلى مستشفى الشفاء وبدأوا في تشغيل أجزاء منها مرة أخرى، حيث بدأت العائلات التي تم تهجيرها في اللجوء إليها مرة أخرى.

وفي نيسان، غزت القوات الإسرائيلية الشفاء للمرة الثانية، بشن غارة استمرت عدة أسابيع بهدف تسريع الانهيار الاجتماعي في مدينة غزة، وقام جيش الاحتلال بتدمير كافة أجزاء المبنى والمعدات، ووفقاً لشهادات الناجين التي جمعتها موندويس في ذلك الوقت، قام الكيان الصهيوني بإعدام مئات الموظفين الحكوميين المدنيين.

وبعد انتهاء الغارة، قال الدكتور مروان أبو سعدة، نائب مدير مستشفى الشفاء، لوكالة أنباء الأمم المتحدة إن تدمير مستشفى الشفاء “أخرج قلب النظام الصحي في قطاع غزة، مضيفاً إن “مستشفى الشفاء انتهى إلى الأبد”.

في كانون الأول 2023، بعد شهرين من الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، داهمت القوات الاحتلال لإسرائيلية مستشفى كمال عدوان، وأجبرت الطاقم الطبي والمرضى والمدنيين الذين نزحوا على إخلاء المستشفى، لكن المستشفى استأنفت خدماتها الجزئية في تموز بعد جهود مشتركة من منظمة الصحة العالمية وأطراف دولية أخرى، إلى جانب الضغط على “إسرائيل” للسماح بوصول كميات محدودة من المساعدات الإنسانية إلى الشمال.

وبينما تضع “إسرائيل” أعينها على أقصى محافظة في شمال غزة لتنفيذ خطة “آيلاند”، أصبحت مستشفى كمال عدوان الآن المعقل الأخير للصمود الفلسطيني في الشمال، الأمر الذي يجعلها هدفاً رئيسياً في الهجوم الإسرائيلي المستمر، حتى كادت المستشفى أن تتوقف عن العمل بشكل كامل عدة مرات، بسبب نقص الوقود لمولدات الكهرباء، والذي كان ينقذه في كل مرة تكثيف الضغوط من قبل الأطراف الدولية على “إسرائيل” للسماح بمرور كميات محدودة من الوقود.

مستشفى كمال عدوان تصمد أمام الحصار

قال الدكتور حسام أبو صفية، مدير المستشفى، لوسائل الإعلام يوم 23 تشرين الأول: “نحتاج إلى وحدات دم وأكفان للموتى وأطباء وطعام، في إشارة إلى أن قوات الاحتلال قطعت خدمات الإنترنت عن المنطقة”.

وفي اليوم السابق، في 22 تشرين الأول، قال الدكتور أبو صفية لوسائل الإعلام إن وحدات الدم نفدت من المستشفى، كما أن المستشفى تعاني من نقص في الطاقم الطبي، حتى أن الطاقم المتاح جائع ومنهك، كما أن مولدات الكهرباء على وشك نفاد الوقود.

كما أشار الدكتور أبو صفية، إلى أن المستشفى تعالج 130 مصاباً، بما في ذلك 14 منهم على أجهزة التنفس الاصطناعي، وأن المسعفين غير قادرين على إخلاء الجرحى من الشوارع بسبب خطر استهدافهم بنيران الطائرات الرباعية المروحية الإسرائيلية، كما دعا الهيئات الدولية إلى فتح طريق إنساني لإجلاء الجرحى، ووصف مستشفاه بأنها “مقبرة جماعية”.

قبل أسبوع، في 16تشرين الأول، نشر الدكتور أبو صفية مقطع فيديو التقطه داخل قسم الأطفال حديثي الولادة في مستشفى كمال عدوان، وأظهر الفيديو أطفالاً داخل حاضنات وممرضات فلسطينيات يعتنين بهم، وقال أثناء التصوير: “هؤلاء أطفال يعانون من حالات صعبة، وهناك المزيد من الحالات في الطريق، حيث حددنا الولادات القيصرية غداً”.

وأضاف أثناء تصويره لطفلة حديثة الولادة، هذه الطفلة وصلت بعد أن استهدفت عائلتها بغارة إسرائيلية، فقد استشهدت والدتها ووالدها وجدتها، وهي الآن وحيدة مع إصابة كبيرة في الرأس والتهاب ثانوي، مضيفاً، إذا لم يصل الوقود لمولدات الكهرباء ستكون هناك كارثة إنسانية لهؤلاء الأطفال.

في أقسام المستشفى، وصف الطاقم الطبي ظروف عملهم: “هناك حالات حرق ونزيف داخلي وكسور في الجمجمة وبتر الأطراف”، و قال الطبيب أمين أبو عمشة، الذي يخدم في كمال عدوان، لموندويس: “من بين كل 10 إلى 15 مصاباً نستقبلهم دفعة واحدة، يكون متوسط الحالات العاجلة التي تحتاج إلى عملية جراحية سبعة. ليس لدينا القدرة على كل هذا، ونحن مضطرون لإعطاء الأولوية للحالات التي يمكن إنقاذها،  مضيفاً أمر جيش الاحتلال الأطباء بالمغادرة، بما في ذلك من خلال المكالمات الهاتفية، إنها إبادة، شمال غزة تُباد، وجباليا تُباد، ومستشفى كمال عدوان يُباد، لكننا لن نرحل”.

مسيرة الموت القسرية

في 23 تشرين الأول، ألقت طائرات بدون طيار إسرائيلية منشورات، وبثت رسائل صوتية على الفلسطينيين الذين بقوا في محيط مستشفى كمال عدوان وداخل مبانيه، تطالبهم بالمغادرة. وفي الوقت نفسه، تم تجميع مئات الفلسطينيين وإجبارهم على الخروج من الملاجئ الأخرى بعد اعتقال الرجال من بينهم، وترك الآلاف عالقين في الشارع بعيداً عن آخر المرافق العامة القائمة، وأجبروا على سلوك الطريق مرة أخرى تحت تهديد السلاح، كما أظهرت لقطات بثها الجيش الإسرائيلي.

لكن الدكتور أبو عمشة في مستشفى كمال عدوان قال لموندويس إنه يعرف أمراً واحداً، وهو أنه على الرغم من نقص الغذاء والإرهاق والحصار والطائرات الإسرائيلية بدون طيار، نحن الأطباء الفلسطينيون لن نغادر، سنبقى من أجل شعبنا.