ظاهرة المقاومة: أشكالها وأزمانها
د.عبد اللطيف عمران
على الرغم من انقسام الموقف العربي والإسلامي اليوم من المقاومة، انقسام على المستوى العمودي، وآخر على المستوى الأفقي، فإن المقاومة العربية الوطنية والإسلامية، والمسيحية أيضاً هي ظاهرة تاريخية مستمرة، ومتعددة الأشكال في مشرق الوطن العربي وفي مغربه ومنذ قرون، ضد الاحتلال العثماني، وضد الاحتلال الأوروبي الغربي، وكذلك ضد الاحتلالين الصهيوني والأمريكي.
لا شك في أن هذا الانقسام بمستوييه مؤذِ للمقاومة وللحقوق وللوعي وللهوية، لكن المعادل الموضوعي لهذه الأذية يتأتى من تتابع الجرائم الملازمة والفاضحة للمشروع الصهيوني، ما يجعل هذا الانقسام على مدى الأيام طارئاً ومداناً، وكاشفاً في الوقت نفسه معيار الإباء والانتماء, في وقت يعلن فيه مجرم الحرب نتنياهو هدف حربه اليوم وهو تغيير وجه الشرق الأوسط، مخاطبا في الكنيست وحوش العصر ومصاصي الدماء لتنفيذ خرائط تلمودية في الوطن العربي.
لا ننكر أن الانقسام العمودي ماثل بشكل مؤسف في تباين مواقف النظام الرسمي العربي من المقاومة، وأن الانقسام الأفقي ماثل في موقف الدولة وقطاعات من الشعب اللبناني من حزب الله، وفي موقف السلطة وقطاعات قليلة جداً من الشعب الفلسطيني من حماس وهو مما يؤسف له أيضاً، وأن هذا الانقسام يقتات عليه المشروع الصهيوني في إستراتيجيته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية ما يجعل ( البُغاث في أرضنا يستنسر).
رغم هذا فلا عاقل يمكنه نكران:
-قدرة المقاومة والمقاومة وحدها على وضع حد حازم وفاصل للمشروع الصهيوني التوسعي – قدراتها على زعزعة الثقة والاستقرار في المجتمع والدولة الصهيونية – قدرتها على رفع سؤال المستقبل والمصير والوجود عند قطاعات واسعة من المستوطنين كقلق يقض المضاجع – قدرتها على خلق سردية جديدة عند فئة حاضرة في الانتلجيسيا (الإسرائيلية) التي بدأت تقدّم رواية جديدة تفضح وتنشر زيف الرواية الصهيونية لتاريخها المعاصر، وذلك بسبب اضطرارها إلى اعتماد منهج التحليل التاريخي في تواصلها البحثي مع جامعات العالم، وخاصة بعد فتح الأرشيف (الإسرائيلي) كوثائق بحثية أواخر الثمانينيات وبزوغ جماعة ( المؤرخين الجدد) وهذه كلها مآزق بنيوية ومصيرية أيضاً.
إضافة إلى هذا فإن هناك تصريحات متواصلة في المجتمعات الغربية تندد وتزدري الرواية والفعل الصهيوني، فصوت الحق لا ينكسر فيها ولا يموت، فمثلاً في الأسبوع الماضي أجرت مجلة بوليتيكو مقابلة مع السفير الأمريكي السابق في سورية والعراق ولبنان.. رايان كروكر سفّه فيها (القناعة بأن اغتيال قادة المقاومة في فلسطين ولبنان سيؤدي إلى تسوية سياسية، أو هزيمة، فهذا هو الجنون بعينه – واغتيال إسرائيل عام 1992 للرأس “عباس الموسوي” في لبنان لم يضعف حزب الله بل أصبح أكثر قوّة – وأمن الجليل مجرّد وهم- ولن يجعل اغتيال القيادات الخصم يشعر بالهزيمة، وأراهن شخصياً أن العكس سيحصل)، فليقرأ المنقسمون عمودياً وأفقياً في أمر المقاومة هذه المقابلة وكثيراً مثلها، لعلّهم يخجلون من هذا الانقسام.
في وقت كان البعض يتحضر فيه للاحتفال بالقضاء على المقاومة، والرقص فوق جثث المقاومين، انقلبت الصورة في وجهه فجأة، ورأى كيف تتداعى مشاريعه وأحلامه دفعة واحدة. كان هناك من يستعد لطي صفحة ماض يمتد على مساحة أكثر من مئة عام من الرفض للمشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة العربية، ليجد نفسه أخيراً أمام مشهد الروح الوطنية المستعادة بكامل قوتها وهي تقدم دروس الصمود والتضحية والبطولة والبسالة في غزة وجنوب لبنان، وفي مختلف ساحات المواجهة مع احتلال متغطرس لا يفهم إلا لغة القوة، ومع سياسيين إسرائيليين هم صور مكررة لمجرمي الحرب ومرتكبي جرائم الإبادة. ولكن ما تأكد هو أن إرادة التحرر والاستقلال لا تتراجع، وأن التوق إلى الحرية لا يزول مهما اشتدت المحن، وأن المقاومة التي انتظرت طويلاً، وضحت كثيراً، في سبيل كسب اعتراف العالم ودعمه وتفهمه تدشن اليوم اصطفافاً عالمياً جديداً، شعبياً ورسمياً.
وكذلك القول إن الشكل الراهن للمقاومتين في فلسطين ولبنان لا يشبه مقاومة فيتنام التي دعمتها روسيا والصين، ولا مقاومة الجزائر التي دعمتها الدول العربية في مناخ ومعطيات حركات التحرر الوطني العربية والعالمية، ولا مقاومة…الخ، هو صحيح من جهة الزمن والظروف، وزائف من جهة الحقوق والواجبات، وفي الحالين فالمقاومة باقية سواء أن تشابهت في الشكل، أو في الزمان والمكان، أو اختلفت. ومع هذا، فمن الضروري البحث-والحال على ماهي عليه- عن شكل آخر رديف من أشكال المقاومة.
فللمقاومة كظاهرة مستدامة أسباب وأشكال، ما يجعل لكل منها سرديتها الخاصة بحسب الزمان، وبحسب المكان، ولعل المتعارف عليه رغم تفاوت الأسباب والأشكال والأزمنة هو أن أهم الدوافع إليها، والتي يستحيل معها عدم ظهور مقاومة، هي التالي: وجود حقوق، وأرضِ ٍ مغتصبة – وجود عدو يمارس عدوانه بوحشية مستدامة وبتمييز عنصري استنكره المجتمع الدولي بقرارات واضحة – إقرار ميثاق الأمم المتحدة الحق في المقاومة بأي شكل من الأشكال- وجود شعب حي بطل يأبى الذل والخنوع والاستسلام.
اليوم هذه الدوافع متوافرة لتغذية حضور مقاومة المشروع الصهيوني عند العرب والمسلمين والمسيحيين أيضاَ، وإذا أضيف إلى هذه الدوافع وجود تغذية وتسريع لمشاريع التطبيع والاتفاقات الأبراهامية التي يطلقها التحالف الصهيوأمريكي اليوم – فإن الوقائع تجعل من المقاومة (أمراً مقضياً)، وإذا كان هذا جميعه غير كاف لتوطيد حس المقاومة وفعلها في الضمير والوجدان العربي، في القول والفعل، فإن الممارسة الوحشية التاريخية والمستدامة والمتنوعة وحدها كفيلة بردة الفعل لهذا التوطيد في وعي وانتماء الأجيال الطالعة من المحيط إلى الخليج بغض النظر عن النظام الرسمي العربي.
هذا الكلام ليس دعاوياً ولا حزبياً ولا سياسياً، بل هو لشعوب العالم أجمع، لأنه حقيقة بمنطق التاريخ والواقع، لذلك تغدو سردياتنا السابقة في المقاومة حقائق مستدامة مهما تعددت الأشكال والأزمان فــ ( أي شعب له حقوق، وأرض مغتصبة من حقه المقاومة – فهناك مقاومة في أي مكان فيه احتلال – نحن لا نصنع هذه المقاومة – وميثاق الأمم المتحدة هو الذي أعطى الشعوب الحق في المقاومة من أي نوع كانت)، هذا بعض مما أوضحه الرئيس الأسد وأضفاه في هذا السياق.