“الشرق الأوسط الجديد” على الطاولة من جديد
ريا خوري
لم تتوقف الحرب الدامية على الشعب الفلسطيني منذ قيام الكيان الصهيوني الغاصب في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948، فقد شهدت فلسطين ومنطقتنا العربية أشرس المعارك التي كان من نتائجها احتلال المزيد من الأرض العربية، بهدف تحقيق مشروع غربي أمريكي – أوروبي – صهيوني لتغيير الشرق الأوسط.
ومع دخول الحرب المدمرة على قطاع غزة عامها الثاني، ازدادت الأمور وضوحاً حول العقلية الاستعمارية والمنهج السياسي الاستراتيجي الذي يحركه مجرم الحرب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، ليس فقط من خلال ما يعلنه أمام وسائل الإعلام والمنظمات الدولية، بل من خلال ما يقوم به من مجازر بشعة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان.
وكان من بين ما قام به ما عرضه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قدّم خريطة جديدة للشرق الأوسط تكشف عن خططه ونواياه في إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، بما يتماشى ودوره الوظيفي، وما يتوافق مع مصالح الكيان الصهيوني ومخططاته التوسعية، وهذا يعني استحداث كيان شرق أوسطي جديد كبديل عن الوطن العربي هدفه إدماج الكيان الصهيوني في المنظومة الشرق أوسطية، والعمل على تحقيق عملية تطبيع دول المنطقة مع الكيان الصهيوني.
إن فكرة الشرق الأوسط كانت قد طُرِحَت من قبل رئيس الوزراء الأسبق شمعون بيرس عام 1993 عندما نشرها في كتابه “الشرق الأوسط الجديد”، الذي يصف بخبث طريقة رسم نظام إقليمي بوجه قومي، وبخطط ومشاريع اقتصادية ضخمة جداً، والعمل على طمس تاريخي لكل تركيبة الشعوب العربية، كما دعا فيه لفكرة شرق أوسط جديد قائم على التنمية الاقتصادية والرفاهية – حسب زعمه – وتُبنى فيه العلاقات بين الدول بناءً تعاقدياً قائماً على المصالح المادية فقط، وبهذا يمكن تحييد الهوية العربية والدينية والثقافية من تعامل الدول العربية مع الصهاينة.
الجدير بالذكر أنه في شهر شباط من عام 2004 م قدم الرئيس الأسبق بوش إلى مجموعة الثمانية الكبار مبادرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي حذَّر في مقدمة مشروعه من ( اقتراب الشرق الأوسط من الانفجار بسبب التدهور الاقتصادي والاستبداد السياسي، وخطورة ذلك على الغرب ومصالحه في المنطقة) كما أنَّ تقارير الأمم المتحدة قد تحدثت عن النواقص بشأن التنمية البشرية وبناء مجتمع معرفي يترافق مع تشجيع الديمقراطية، وتوسيع الفرص الاقتصادية، وتحقيق الحكم الصالح. كل ذلك لأنّ الحكم الصالح والديمقراطية يشكلان الإطار الذي يساهم في تحقيق التنمية.
تلك الشعارات تخفي في طياتها أهداف باطنية تعمل على تحقيق إعادة تشكيل المنطقة من جديد، وإعادة ترتيب أوضاعها لتقبل النموذج الليبرالي عبر الديمقراطية الغربية، المتّبع في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، كما يسعى المشروع إلى دمج وتطبيع الكيان الصهيوني مع الدول العربية في كيان شرق أوسطي، وذلك بعد القيام بتهيئة المنطقة للعولمة، وانتشار الشركات الأمريكية والأوروبية العابرة للقارات، وهيمنتها على اقتصاد منطقتنا العربية. وما الحديث عن نشر الحريات والديمقراطية في وطننا العربي ليس إلا وسيلةً وأداة لتحقيق سيطرتها على بلداننا العربية وتحقيق أطماعها الاستعمارية.
حديث الغرب الأمريكي – الأوروبي عن نشر الديمقراطية والحريات في العالم العربي لا يعدو أن يكون سوى أداة لتحقيق الأطماع الاستعمارية الجديدة. ولهذا فالمشاريع الغربية تخضع في حجم توظيفها للإستراتيجية التي رسمها الغرب لمنطقتنا، فالغرب المتمثل بحلف شمال الأطلسي (الناتو) عندما أراد الانقضاض على النفط الليبي ونهبه، قام بتوظيف شعارات الديمقراطية والحرية للتدخل العسكري في ليبيا، ولكن الغرب نفسه لا يريد التدخل في سورية، فهو مع تزويد كافة الأطراف المتنازعة بالسلاح بما يتيح تدمير سورية والتمهيد لتقسيمها، وهو الهدف الاستراتيجي، فقد كان من أبرز مخططات التقسيم المقترحة لمنطقتنا العربية ما قدمه الجنرال الأمريكي المتقاعد رالف بيرتس بعنوان: “حدود الدم كيف يبدو الشرق الأوسط بصورته الأفضل”، هذا المشروع هو طبعة جديدة محدّثة للمشروع التقسيمي الذي نظّر له المفكر الصهيوني برنارد لويس القاضي بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية، وتفتيت كلٍ منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية الصغيرة كي يسهل السيطرة عليها، واعتماد نظرية (الفوضى الخلاقة) في الشرق الأوسط بشكل عام، والوطن العربي بشكلٍ خاص، حيث رأى ضرورة بث الديمقراطية والتلميح لتحقيقها من أجل مواجهة ما أطلق عليه (الإسلام الراديكالي) الذي يهدِّد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنَّ دعم الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الأنظمة يهدف إلى حماية الكيان الصهيوني.
لقد اتجه الغرب الأمريكي – الأوروبي ساعياً لتغير سياسته في المنطقة والعمل على نشر ما تدعيه (الديمقراطية) المرسومة ضمن حدود ضيقة جداً ، كما رأى هذا الغرب أن التقسيم السابق للمنطقة غير مناسب ويجب أن يتغير بحيث يتم تقسيم المنطقة على أساس عرقي وديني، وكان عدد كبير من الباحثين والمحللين الاستراتيجيين قد أكّدوا على نشوء إرهاصات جديدة غير مدروسة وغير متوقعة في أثناء تحقيق مشروع تقسيم المنطقة، وكان الباحث الأمريكي فرانك جاكوبس قد أكّدو ذلك عند تنفيذ نظرية (الفوضى الخلّاقة) باعتبارها نظرية تدل على إمكانية تقسيم منطقتنا العربية، حيت تم تعريف تلك النظرية بأنّها (حالة جيوبوليتيكية تعمل على إيجاد نظام سياسي جديد وفعال له خصائصه المميزة بعد تدمير النظام السياسي القائم أو تحييده نهائياً).
في حقيقة الأمر، من خلال متابعة ما يجري من تفاعلات وتغيرات في منطقتنا العربية بشكلٍ خاص، والشرق الأوسط بشكلٍ عام، كل ذلك لا يعطي مؤشرات مؤكدة لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المنطقة على المدى القريب، فهناك سيولة كبيرة من المعطيات والمعلومات المتداخلة، وأطراف عديدة متشابكة، ومصالح متباينة، وقوى متداخلة ومتصارعة بل ومتنازعة على منطقتنا بهدف نهب ما فيها من خيرات ومقدرات، كما نلحظ تعقيد كبير لن يحلها التعاطي الأميركي ذاته مع الأحداث كما تعوَّد صانع القرار الأمريكي منذ عقود، ومن بعده صانع القرار الأوروبي، فهناك بؤر ستظهر وقد تتفجر بطريقة لا يمكن احتواؤها أو السيطرة عليها.