التاريخ لا يكرر نفسه
عناية ناصر
تحدّث بعض الساسة الغربيين في الآونة الأخيرة عن احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة، زاعمين أنهم يرون ظلال الصراعات تلوح في الأفق فوق مضيق تايوان، وشبه الجزيرة الكورية، وبحر الصين الجنوبي بل آسيا بأكملها، حتى أن البعض ذهب إلى حدّ وصف روسيا والصين وإيران بأنهم “قوى المحور الجديدة”.
إن الخبرة السابقة، إن لم تُنسَ، هي دليل للمستقبل، حيث دخل العالم فترة جديدة من التغيير والاضطرابات، وهناك بعض أوجه التشابه بين الوضع الحالي وعشية الحربين العالميتين السابقتين. تمتد المشكلات المحلية المتفاقمة في البلدان المتقدمة مثل التباطؤ الاقتصادي إلى بلدان أخرى، وتعمل القوة المهيمنة المهووسة بالحفاظ على تفوقها على تأجيج المنافسة بين القوى العظمى. ومن المرجح أن تخرج الصراعات الإقليمية عن نطاق السيطرة، مما يزيد من خطر المواجهة بين الكتل، إضافة إلى أن النزعة الشعبوية والحمائية والأيديولوجيات اليمينية المتطرفة في الغرب في تزايد مستمر. كما تفتقر الدول الكبرى إلى الثقة المتبادلة والتنسيق، وقد أضيف كل هذا إلى حالة عدم اليقين، وعدم الاستقرار في العالم وقوّض فعالية النظام الدولي.
وبعبارة أكثر وضوحاً، أصبحت الولايات المتحدة، القوة العظمى الوحيدة في العالم، مصدر خطر اندلاع حرب عالمية أخرى بعدة طرق، حيث تحاول الولايات المتحدة تشكيل أنظمة الدول الأخرى، وتشكيل النظام العالمي على أساس قيمها وعلى صورتها الخاصة، وتقسم العالم إلى معسكرين “ديمقراطي” و”غير ديمقراطي” من خلال الترويج لسردية “الديمقراطية مقابل الاستبداد”.
تعمل الولايات المتحدة ضد العولمة، فهي تقوّض آليات التعاون العالمي، وتستغل هيمنتها المالية لتصدير التضخم، مما يجبر الدول الأخرى، وخاصة الاقتصادات الناشئة، على تحمّل الفاتورة. إن الولايات المتحدة تفرض قيوداً على التجارة والتعاون الاقتصادي، مستشهدةً بسياسات وادعاءات أمنية زائفة، وتدفع نحو فكّ الارتباط بين الاقتصادات وبناء ساحة صغيرة ذات أسوار عالية لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والتجاري الدولي لصالحها.
بالإضافة إلى ذلك تستمر الولايات المتحدة في تأجيج الصراعات الإقليمية، في حين يستمتع مجمعها الصناعي العسكري بربح غير متوقع من الحروب، وأفضل دليل على ذلك هو أزمة أوكرانيا الحالية. ففي حين دمّرت حياة الناس في مناطق الصراع، ترى واشنطن أن تسليح أوكرانيا أمر جيد لتحقيق النمو في الاقتصاد الأمريكي وربح يجب أن يستمر.
من أجل احتواء الصين، تحاول الولايات المتحدة استمالة حلفائها وشركائها بمفهوم “الردع المتكامل”، وتقوم بالترويج لـ”نسخة آسيا والمحيط الهادئ من حلف الناتو”، وتردّد الرواية الزائفة “أوكرانيا اليوم، تايوان غداً”، بل وتشير حتى إلى استعدادها لاستخدام معداتها العسكرية لدعم البعض في جزيرة تايوان.
إن السلام الدائم ليس أكثر من وهم في ظل الهيمنة، فخلال تاريخها الذي يزيد على 240 عاماً، لم تكن القوة المهيمنة على العالم في حالة حرب سوى 16 عاماً فقط. ولذلك فإن التحركات التي يمكن أن تتخذها من أجل حرصها على حماية هيمنتها العالمية، مع إنفاقها العسكري الذي لا مثيل له، ينبغي مراقبتها بحذر شديد.
وإذا ما أخذت في الحسبان هذه العوامل السلبية، فهل الحرب العالمية الثالثة حتمية حقاً؟ فكما أن لكل غيمة بصيص أمل، لا تزال هناك العديد من العوامل الإيجابية المهمة التي يمكن أن تساعد في منع اندلاع الحرب، ولذلك لأن القوة الدافعة إلى السلام والتنمية مستمرة في النمو، كما وتعمل الاتجاهات نحو عالم متعدّد الأقطاب والعولمة الاقتصادية على خلق روابط أوثق بين الدول وتعزيز شعور الناس بالعيش في مجتمع ذي مستقبل مشترك، وهذا من شأنه أن يساعد في إبعاد الحرب العالمية.
لا تزال المشاعر المناهضة للحرب قوية، حيث قال ألبرت أينشتاين ذات يوم: “لا أعرف أي أسلحة ستُخاض بها الحرب العالمية الثالثة، ولكن الحرب العالمية الرابعة ستُخاض بالعصي والحجارة”. لقد أظهرت الحربين العالميتين السابقتين أن الحرب ليست أفضل وسيلة لحلّ النزاعات، وأن العالم لا يستطيع أن يتحمّل المزيد من الويلات من حرب أخرى شاملة النطاق، وكلما ازداد العالم فوضوية، كلما ازدادت رغبة الناس في الاستقرار.
كانت الأمم المتحدة الدعامة الأساسية لنظام الحكم العالمي على مدى العقود الماضية، كما أنها لعبت دوراً نشطاً في الحفاظ على الأمن الدولي، وتعزيز الحدّ من الأسلحة، ومعالجة التحديات العالمية، إلا أن هناك الكثير من المشككين في مدى فعالية دور الأمم المتحدة خلال السنوات الأخيرة وأنها لم تعد قادرة على القيام بواجباتها كما يجب، وخاصة عندما تتصادم مصالح القوى العظمى مما يؤدي إلى عدم قدرتها على معالجة الأزمات ومنعها بشكل فعّال.
تخشى الولايات المتحدة من تكلفة الحرب النووية، حيث غيّرت الأسلحة النووية طبيعة الحرب بشكل عميق. وفي ظل الردع النووي، أصبحت الولايات المتحدة أكثر ميلاً إلى شنّ “حروب بالوكالة” أو تأجيج الصراعات الإقليمية، مما يسمح لها بمواصلة بيع الأسلحة والاستيلاء على الثروات من الأطراف المعنية.
إن تنمية الصين هي دفعة للقوة العالمية من أجل السلام، ومن خلال إصرارها على التنمية السلمية، تشق الصين طريقاً للنهضة السلمية يختلف عن مسار القوى التقليدية. لقد قامت الصين بتدوين المبادئ الخمسة للتعايش السلمي في دستور البلاد كحجر أساس لسياستها الخارجية المستقلة للسلام، كما عملت بنشاط على تعزيز المحادثات من أجل السلام كوسيلة لحل الصراعات والنزاعات.
يقف البشر مرة أخرى عند مفترق طرق تاريخي، ومن الضروري أن يضع العالم في اعتباره دروس الماضي، والتأكد من أن التاريخ لن يكرر نفسه.