الكتابة الصّادقة السّاطعة؟!
وجيه حسن
الحقّ يُقال: إنّ المشتغلين بحرفة الكتابة والتأليف، والتّعبير والتّحبير، أرباب (رُخَص الأقلام)، أصحاب الهمّ والغمّ والمعاناة وقلّة ذات اليد، “خاصّة بدول العالَم الثّالثي”هم من أناسِيِّ هذا المجتمع أو ذاك، خرجوا من صفوفه، ومن صُلبه، وهم يكتبون عنه، وعن معاناة ناسِه، وما يُلاقونه من جهدٍ وعنتٍ واصطبارٍ وألم، مردّ ذلك كلّه إلى الظّروف الصّعبة المُتراكبة، وإلى جحيم المعاناة الزّائدة على الحدّ، التي يُلاقيها المواطن/ الإنسان، بسبب مفاعيل هاتِهِ الحروب الهمجيّة، التي تأجّجت نيرانها في كثرة كاثرة من بقاع هذا العالَم المُتراحِب، وفي بلدنا العزيز، على مدى خمسة عشرَ عاماً، على حين غفلة، “ويا غافل لك الله”، والتي صبّ المجرمون “الجنكيزيّون.. الهولاكيّون” الرّعاع خلالها حِمَمَ حقدهم، وقنابل جبروتهم على بلدنا الطيّب المُسالِم، مُتذرّعين بحججٍ باطلة، هي أوْهَى من بيت العنكبوت، وهم في هذا كلّه، وفي سواه، مُراوِغون مُتَثعلبون نازيّون..
حيال ذلك كلّه، فإنّ من الوفاء لتراب الوطن، وسمائه الطّهور، وبشره وشجره، ومائه وحجره، أن يكون الكاتب/ الأديب شعلة حيّة في المجتمع، يكتب عن مُعاناة الناس، ومواجع قلوبهم، وعمّا يقع للوطن من انتهاكات وهزّات ومطبّات وأحداث وآلام.. والمجتمعُ المُفضّلُ لهذا الكاتب أو ذاك – حين يكون كاتباً ملتزماً محترماً، صادقاً مع نفسه، ومع قلمه أوّلاً وأخيراً، ومع قرّائه – ينحصرُ في الاندماج بجمهرة الكتّاب والأدباء، والالتقاء بهم عن قربٍ قريب، كي تكون الرّؤى متقاربة أو منسجمة، بل الاندماج يكون أوّلاً مع هموم الناس وآلامهم ومعاناتهم، وما أكثرَها اليوم، وما أبهظَها، وما أثقلَ صخرتها عليهم..
وعلينا بهذا السّياق، أنْ نقرّ بصوت جهوريّ متّحد، أنّ الأدباء المخلصين، والمثقّفين الحقيقيّين، والكتّاب الصّادقين، في بلدنا، وفي غيره من البلدان، هم جميعاً بلا جِدال (ملحُ الأرض وذهبُها وفضّتُها) بآنٍ..
ومَنْ يتعالَى على هذا الكَلِم، وينكره، أو يدحضه، ويعدّهُ طرحاً سخيفاً من سَقَط المتاع، فموقفه عندئذ يكون كَمَنْ يحجب الشّمس السّاطعة “رائعة النّهار” بغربالٍ مثقوب، أو بقماشٍ شفيفٍ أو سميكٍ لا فرق..
ثمّ أليس الكاتب الحقيقي، ضميرَ الأمّة أيّة أمّة؟ ومادام يكتوِي بنار الظلم والاعتداء والهمجيّة والقهر والاغتيال والإهمال، فإنّه سيظلّ يكتب عن معاناته الكفاحيّة، ومعاناة شعبه ووطنه بآنٍ معاً.. لكنّ الغريب أنْ تُفرِز الطبقات الفقيرة مَنْ ينقلب عليها، كاتباً كان، أو غيرَ كاتب!
والكتابة الصّادقة السّاطعة، لم تكن في يوم من الأيام مرآةً تجوبُ الشوارع، بل أصبحت أداة توعية وتحفيز وتثوير وتطوير، ومصباحاً ينير الطريق، من أجل استشراف المستقبل، وهي “أي الكتابة” بالطبع مهمّة “الأدب الطليعيّ”، الذي يتجاوز “الأدب الصّدى”، الذي يكتفي هذا بالتّصفيق للمنجزات، حتى تحمرّ وجنتاه واليدان، وتنتفخ أوداجُه كذباً ورياءً، وتصنّعاً وسُقوطاً..
إنّ دوْر الأدب الحقيقي، أنْ يكون صوتَ الحقّ والعدل والخير والجمال، وكلّ القِيم الإنسانيّة في عالَم الغاب.. والكاتب – مُطلَق كاتب – إمّا أنْ يركب الموجة الطّاغية، ويصبح واحداً من قِرَدَة “السِّيرك”، وانتهازيّاً مثل آلاف الانتهازيّين السّاقطين، الذين يوظّفون مؤهّلاتهم في خدمة طبقة معيّنة، تلك التي تحقّق لهم بعض تطلّعاتهم الأنانيّة الضيّقة، أو تعطيهم حفنة من المال، ناسِين أو مُتناسِين الجماهير الذين خرجوا من صفوفها.. أو يُؤثِر الصّمت، فيحترق بنار القهر والمُعاناة والإهمال والتّعتيم والانعزال، حين يرفض أن يُتاجِر بقِيمِه الفكرية، ومبادئه السّامية، وليس غريباً أنْ تفرز الطبقة البورجوازية أو الرّأسمالية وُحوشاً على شاكلة هذا النّوع البشري..
وفي هذا المضمون، ألم يقل الروائي المغربي “عبد الكريم غلّاب”، في روايته الموْسُومة بـ “المعلّم علي”: (إنّ الله لم يحكم علينا بأنْ نظلّ عبيداً، نصنع الجلودَ الطيّبة، ليستغلّها الأثرياء، أمّا نحن فنظلّ نسيرُ عُرَاة)!!
وهذا “تشارلز ديكنز، الرّوائي والنّاقد والقاص الإنكليزي، على سبيل التّمثيل، قد كان بحقّ شعلة حيّة في مجتمعه البريطاني، إذْ كاد الرّجل أنْ يقتل نفسه من الإجهاد القاسِي، والتّعب المُضنِي.. ففي سنة واحدة فقط، كتبَ ثلاث روايات، وحرّر مجلّة، وفي أوقات فراغه أنتجَ تمثيلية غنائية، ورواية ساخرة..
ويُقال على ألسنة عدد من الدارسين: إنّ إنكلترا قد أنجبت أعظم فنّانَيْن عالَمِيَّيْن هما: “جوشوا رينولدز”، “رسّام الجسم البشري”، و “تشارلز ديكنز”، الرسّام الكاريكاتيري للرّوح الإنسانيّة، الذي قال قولته الشّهيرة: “أنا أكتبُ للنّوع الإنسانيّ فقط”…
ففي ولاية نيويورك، أوقفته امرأة عابرة سبيل في وسط الشارع، لتقول له بصراحة ومكاشفة تامّتين: أتوسّل إليك يا مستر “ديكنز”، أنْ تسمحَ لي بِلَمسِ اليد، أو تقبيلها، هاتِهِ اليدِ التي ملأت بيتي بالأصدقاء.. نظر إليها “ديكنز” نظرة ودّ ونداوة وسماحة نفس، ثم تابع سيره، مُظهِراً معها سريرته المازِحة، ونفسه الشّفافة الرّقيقة.. وحسب رأيه وفلسفته، فإنّ الحياة كلّها، يمكن أنْ تتحوّل إلى مهزلة، إذا نظر المرء إليها بالأسلوب الصّحيح، لا المقلوب..
وذات مرّة صاح الروائي الإنكليزي “وليم ثاكيري”، مؤلّف رواية “سوق الغرور”، قائلاً: (ما الفائدة من ركضي خلفَ ذلك الرّجل، يقصد “ديكنز”، أو من جَرْيِي بجانبه؟ أنا لا أقدر على مَسِّهِ، بل ليس بوسعي ومستطاعي التقرّب منه بتّاً)!!
أمّا “ديكنز”، فيقول مادِحاً نفسه بِتواضُع جمّ: “لم أرَ مثل هذه المحبّة الشخصيّة التي انهالت عليَّ من كلّ حدب وصوب، بسبب كتاباتي العفويّة الصّادقة المُؤثّرة”! وفي أحد اللقاءات معه، يقول: “إنني سأتلاشَى كغيري من هذه الليالي المُضْنِية، وأنا أشعر من كلّ قلبي وكياني بالمحبّة والاحترام والشّكر في وداعِي لكم، قرّائيَ الأحبّاء”..
وهذه “ماريا بيدنيل”، ابنة مدير أحد البنوك البريطانية، تقول عن “تشارلز ديكنز”: (إنّ ديكنز شاب صغير، لطيف، لكنّه – بكتابته للقصص – لن يتمكّن بأسلوبه، وطريقة حرفته المُتواضِعة من القيام بشؤوني، والاضطِلاع بمعيشتي).. لذا فقدْ فقدَ “ديكنز” “ماريا”، إذْ رفضته وتزوّجت شخصاً غنيّاً، أصبح خلال سنوات قليلة فقيراً مُعْدَماً، على حين أنّ “ديكنز”، استمرّ في كتابة قصصه ورواياته، ليصبحَ من أثرى الرّجال في بريطانيا)..
ويقول الرّوائي المغربي “البكري أحمد السباعي” من بؤرة الهمّ والوجع: “لقد شبعَت أراضينا العربيّة تدجيلاً ونفاقاً وشعوذة، وعطشت دماً ونضالاً”..
زبدةُ الكَلِم: إنّ الكاتب الحقيقيّ، الكاتب الجادّ، الكاتب الصّادق، يصنع من البراعم زهوراً يانِعَة، يقدّمها للإنسان– مطلق إنسان – في أيّ مكان، برغم جبال المُعاناة، وأكْثِبَة الهموم والمواجع الضّاغطة عليه، وعلى روحه وقلمه…