الأدب والأسطورة والمعدن الواحد
أمينة عباس
تأتي أهمية المحاضرة التي ألقاها الدكتور غسان غنيم، مؤخراً، تحت عنوان “الأسطورة والأنماط القولية الأخرى” من واقع الخلط الذي ما يزال قائماً عند الغالبية منّا بين الأسطورة وأنماط تشبهها أو تقترب من دلالتها الواسعة، مثل الحكاية الشعبية والخرافة والملحمة، في حين أن كلّ مصطلح من هذه المصطلحات فيه ما يعنيه بعينه وإن تشاركت بقواسم بين بعضها في بعض الأحيان، لكن ما هو مؤكد حسب غنيم أن “الأسطورة هي حقل معرفي لا يزال الكثيرون يختلفون بشأنه، وما تزال فاعليته الأدبية والثقافية حاضرة، وما يميّزه بين هذه الأنماط أنه قصة أُلّفت من قبل جماعة بشرية أو من قبل أفراد تناولوا فيها موضوعات وجودية كبرى كفكرة الموت والوجود والمنشأ والمصير وصراعات الإنسان مع الطبيعة والقوى الغامضة كالقدر من خلال شخصيات تكون غالباً آلهة أو كائنات عُلْوية، وتالياً هي ليست كما يرى غير المختصين مجرد خرافة تقوم على أحداث تجنح نحو الخوارق وكل ما هو فانتازي وبعيد عن العقل، بل هي حكاية حاول فيها الإنسان أن يفسّر الكون ويعلّل بعض مظاهره حين لم يكن يمتلك التفسير العقلي والعلمي الحقيقي لتلك الظواهر”.
نظريات كثيرة حاولت تفسير الأسطورة، لكنها حسب غنيم “قاربت الدلالة ولم تعط تفسيراً نهائياً أو دلالة قاطعة، وظلت تشكل مقاربات تحاول الوصول إلى كنه هذا المصطلح المحيّر، ومن هذه النظريات النظرية التاريخية التي رأت أن أبطال الأساطير وأعداءها حقائق تاريخية ضُخّمت وبولغ فيها حتى وصلت إلى ما هي عليه، في حين فسّرت نظرية أخرى نشوء الأسطورة بعدم قدرة عقل الإنسان القديم على التحليل والمحاكمة وعجزه أمام تفسير الظواهر الطبيعة مما جعله يلجأ إلى التفسيرات الأسطورية”.
كثيراً ما يتمّ الخلط بين الأسطورة وأنماط أخرى تقترب من مفهومها، لكنها تختلف عنها كالخرافة والحكاية الشعبية والملحمة، ويفرّق غنيم بينها قائلاً: “الحكاية الشعبية ذات بنية بسيطة، تمتزج بالواقع الحقيقي وتحكي عن غرائبه وغرائب العالم الآخر وليس لها طابع أدبي صرف، وتلتقي مع الحكاية الخرافية في أنها نتاج خيال واحد أُلصق بالخيال الشعبي الذي يتناول هموماً بشرية بسيطة قد لا تصل كما في الأسطورة إلى الحالة الوجودية الأكثر تأثيراً وإلحاحاً في حياة الإنسان، ولا تدور أحداثها حول الآلهة والأحداث الكونية الأخرى، بل تهتمّ بما هو أدنى وأقل في سلم حياة الإنسان ومشكلاته وهمومه، وقد تستخدم الحكاية الشعبية ما قد يفيدها من العناصر الأسطورية بهدف التسلية، ولهذا تمتلك خاصية التشويق والجذب بعيداً عن طابع القداسة، إذ تقف عند حدود الحياة اليومية والأمور الدنيوية كقصص مكر النساء ومكائد زوجات الرجل الواحد وقسوة زوجة الأب على الطفلة المسكينة التي تتدخل العناية الإلهية لإنقاذها، وأستطيع القول إنه ثمّة تداخل بين الحكاية الخرافية التي تملؤها المبالغات الكبيرة والأحداث الخارقة التي تقتصر شخصياتها الرئيسية على الحيوانات أو الجنّ والإنسان البسيط غالباً وبين الحكاية الشعبية مع وجود فوارق بينهما على هذا الصعيد، لكنهما تفترقان عن الأسطورة بما تمتلكه من عناصر تخصّها وحدها ترجع إلى طبيعة الموضوعات والشخصيات، وكذلك الصياغة الأدبية الأرفع والأكثر تميزاً وأغنى معرفة وثقافة”.
لكن ما الفرق بين الأسطورة والملحمة؟ يجيب د. غنيم: “ثمة تعريفات كثيرة، فالملحمة تشير إلى القصيدة القصصية التي تمتزج فيها أفعال البشر وتصرفات بعض الكائنات الإعجازية الخفية كالآلهة والمردة والشياطين والوحوش الخفية المهولة والقوى الكريهة والظواهر الطبيعية، وتحتوي غالباً على بعض الأساطير، فتدخل الأسطورة في نسيج الملحمة، وليس العكس صحيحاً لأن الشخصيات الأساسية في الأسطورة من الآلهة، بينما تكون الشخصيات الأساسية في الملحمة من البشر، وتدخل الأعمال الحربية بشكل واضح في أساس الأحداث الملحمية، وقد تلتقي أحداثها مع التاريخ، لكنها لا تشكل تاريخاً حقيقياً بحقائقه وأبعاده التي تقوم على الوثيقة، لأنها تحتوي على أحداث خيالية يهدف الشاعر منها إلى إظهار كل ما هو أصيل وجميل وسامٍ في خصائص هذه الأمة أو هذا الشعب، وهي حين تتحدث عن الماضي المشتهى بحضور الهزائم في الحاضر تصبح تعويضاً يرفع معنويات شعب من الشعوب حين انحداره، وهي كما الأسطورة نتاج أدب إنساني في مراحل زمنية مختلفة، وكلاهما يؤكدان حاجة الإنسان الماسّة إلى الأدب في كل زمان ومكان، وهي غالباً أعمال تنتقل بشكل شفاهي عبر الأجيال إلى أن يقيّض لها من يدوّنها لتحقق وجوداً أدبياً ساحراً بأحداثها المثيرة وأبطالها الخارقين، ومعظم الشعوب أبدعت في صنع ملاحمها كملحمتي “الإلياذة” و”الأوديسة” اليونانيتين والملحمة الفارسية “الشاهنامة” و”بيوليف” الإنكليزية.
ويختتم د. غنيم كلامه قائلاً: “قد تشكل الأسطورة الإبداع الإنساني الأكثر رقياً في ذلك الزمن السحيق، وهو الإبداع الذي أنتجه المبدعون الأكثر ثقافة ومعرفة وعلماً، بينما تشكل الخرافة الإبداع الشعبي الذي لم يقم به المحترفون بل النابغون من العوام الذين لم ينالوا حظاً وافراً من ثقافة عصرهم ومعرفته، وقد قاموا بذلك بقصد التسلية أو لتثبيت قيمة أو مبدأ ما أو لتغيير ظاهرة لم يتيسّر تفسيرها إلا بهذا الشكل الخرافي، فتبناه العامة وشاع وانتشر، مع تأكيد أن الأدب والأسطورة من معدن واحد، فالأسطورة هي أدب ذلك الزمن الذي لبّى حاجة الإنسان الروحية والأدبية والتي تعيد إليه توازنه الداخلي، فتدفع المتلقي إلى الفرح والاعتداد والفخر، وتتميّز بخاصية الجذب كالأدب”.