“ذاكرتي تمطر أقحواناً”.. رسائل للحب والحرب
عمر محمد جمعة
لا يمكنُ المرورُ اليومَ على أيّ فنونٍ أو آدابٍ ينتجها السوريون، ولاسيما الشباب منهم، من دون لمس الآثارَ الروحيةَ والماديةَ التي خلّفتها الحربُ بتداعياتها البغيضةِ والمؤلمةِ، وأرختْ بظلالها القاتمةِ الكئيبةِ على مجملِ تفاصيلِ حياتنا ويومياتنا، وإذا أمعنا النظرَ أكثر في العقد الماضي كله سينفرطُ عن أوجاعٍ وجراحاتٍ وأحلامٍ وئدتْ من دون أن تكتملَ، وأمنياتٍ تشظّت من دون أن نعرف كيف نحققها، ووجوهٍ ألفناها أو عرفناها أو عشقناها توارت في لحظة موت ومضت في عتمة الغياب، لكن السؤال المتطاول دائماً في وعينا ووجداننا: كيف سنتعامل كأدباء وكتّاب ومبدعين مع هذه الحرب، وهل بمقدورنا اجتراح ولو بارقةَ أملٍ وسط هذا الخراب الخارج عن أي منظومة قيمية أو أخلاقية؟.
في روايتها “ذاكرتي تمطر أقحواناً” الصادرة، مؤخراً، في حلب، تجيب الكاتبة الشابة وردة حاج موسى عن هذا السؤال، وقد أتقنت رسمَ وتصويرَ وتوثيقَ يوميات الحرب والحصار، سواءٌ في حلب أم مدينتها البعيدة المحتلة “الفوعة”، وعكست بموضوعية ما يعتري الإنسانَ وهو يواجه هذا الخضم من الدمِ والدمارِ والتهجيرِ والغيابِ القسري، واختزلته في كلّ ما كتبته على مساحة صفحات الرواية، بدءاً من الإهداء الذي افتتحته بما يشي بذلك من خلال قولها: “إلى هويتي الممزقة، ذاكرتي الضائعة، مدينة السلام، تلك التي احتضنت أخي الشهيد وخبأته لولادة تليق به وبها”، مروراً بالأحداث المبنية على وصف يوميات الحرب، كما قلنا، وصولاً إلى النهايات الموجعة المفجعة إلى آلت إليها شخصيات الحكاية.
وعلى هذا التمزّق والضياع والتشتّت الذي سارت فيه وإليه أحداثُ الرواية برمتها، فإننا لن نستغربَ طغيان مفردات كالقلق والخوف من المجهول والرعب والتوتر والكآبة والكوابيس الممضّة والحزن العميم وندب الروح التي لا تُمحى والخيبات المتلاحقة، والتي حاصرت الشخصيات وحشرتها في حيّز ضيق من الانفعالية لا الفعل، فبدتْ مستسلمةً للقدر محدودةً جداً في تناميها وتطورها، مشلولةَ الإرادة إزاء ما يحيط فيها من تحولات ووقائع، وكأن الكاتبةَ تختارُ لها مصيرها المحتومَ لا مصيرها المنطقيّ، فالأم نبيلة أخذتْ نجومُ الأبِ أو الزوج نصرت شرف الدين الكثيرَ من صحتها، وتلك الهالاتُ التي تسكنُ أسفلَ عينيها تخبرنا عن تاريخٍ كاملٍ من السهر والقلق عاشته بتقلباته، وغيث صديق ميسم الذي لم يكن يدرك أنه بعد زواجه بعشرين يوماً سيسرقه الموت منها ليتركَ حبيبته أرملةَ الحب، معطوبةَ الأحلام، ثكلى الحكايات النائمة، وكأنه لم يقبل الرحيل من دون زفها عروساً له، لتزفّه هي قبل مضي شهر عسلها شهيداً خالداً في سمائها، وكذا الأمرُ بالنسبة لميسم وحبيبته فيحاء والتي استشهد قبل تحقيق حلم الارتباط بها، وعلى النسق ذاته تنتهي حكاية نغم ويعقوب الذي تقول الكاتبة عنه: “لكن كلّ شيء تحطّم داخله، تشظّت أحلامه وروحه وتشتّت مسار حكايته، في ليلة ظلماء قاسية أقبل الموت بأبشع أشكاله، اغتالوا أقداره، طعنوا والده ونكلوا بجسده ومثلوا بأشلائه أمام مرأى عينيه، وهو مكبل الجسد”.
أما يعقوب فيخاطبها بالقول: “ستبقين في قلبي دائماً، وستأبى هذه الروح أن تنسى حبنا العظيم، لقد أوجعتكِ بما يكفي، أنت تستحقين رجلاً أفضل مني ليحميك ويحرسك، لم يبقَ لديّ ما يمكن أن أمنحك إياه، سامحيني أرجوك”، إذن هو يفرّ من ذكريات مقتل والده، ويضحّي، وقد غدا واهناً منكسراً، بالعشق الموعود، متسائلاً: “كيف يعيد علاقته مع أماكن شربت من دماء أبيه؟ كيف يتصالح مع عيونه التي رأت هذه الفاجعة المؤلمة؟ كيف يصادقُ النوم والكوابيس لا تفارق غفوته؟ قرّر أن يبدأ حياة جديدة، تنسيه بؤس ما جرى!”.
حتى الحكايةُ الرئيسيةُ وبطلاها زهر ومروان لا تفلتُ أبداً من القلقِ والمصيرِ المحتوم الذي أرادته الكاتبة، تقول في وصف بداية تعرّف زهر إلى مروان في لقائهما الأول: “يأخذها القلق ويغمرها بأحاسيس مختلفة، متعبة جداً كذاك الليل الطويل الحزين الذي يستر بسواده كلّ شقوق الروح الممزقة، ويمحو بقع الخيبات المتفشية بالقليل من كلّ شيء، قرّرت الذهاب بملء إرادتها وكامل اندفاعها إلى لقائها الأول”، وتمضي هذه الحكاية أيضاً إلى الضياعِ والتشتّتِ على الرغم من الزخم العاطفي، الذي عاشه العاشقان طوال فترة الحصار، ليستسلم هو للمرض، وتبقى هي أسيرةً للذكريات التي اختزنها دفترها الأصفر المهترئ وصندوق أقحواناتها اليابسة، وتنتهي الرواية إلى أطلال وركام من الأحلام المبتورة المشتهاة، وربما هذه رسالة الكاتبة لركني الرواية الرئيسيين (الحب والحرب)، فالحرب مستمرة تطحنُ رحاها ما تبقى منا، فيما لا قيامة أبداً للحبّ في هذه الأرض، ولتجيب وردة حاج موسى عن سؤال زهر وهي ترى أفواجَ الموتى والراحلين تترى وتتقاطرُ كلّ يوم وبأعداد أكبر، وتستذكرُ فاجعةَ خسارتها لأخيها ميسم: “ألا يحقّ لنا أن نختارَ موتنا، لأن الموتَ في الوطن صار عرضةً للصفقات المبرمة، فبدلَ أن يمنحنا الوطنُ أحقيةَ البقاءِ وهبناهُ نحنُ أعمارنا وأسماءنا ليبقى، لم يكن العزاء لمن رحلوا بل للذين بقوا محاولين العيش بعدهم، مبتوري الإحساس، مشلولي الإرادة”.
على أن تلك المشاعر والتحولات المتناقضة والشخصيات المتشظية لم تحلْ دون اكتشافنا لقدرة الكاتبة على التعبير عن أحداثها وحكاياتها بلغةٍ شفافةٍ مرهفةٍ مكثفةٍ، وسردٍ آسرٍ استطاعتْ أن تضبطه حتى الكلمة الأخيرة، على الرغم من التفاوت في مستويات هذا السرد الذي لم تخلُ بعض مفاصله من التكرار والدوران في المكان، والتكلف، وربما الترهل والاستطراد في الحوار، وسيغدو ذلك مفهوماً، في زعمنا، والكاتبة وردة حاج موسى تخطو خطوتها الأولى في هذا الفضاء، المفتوح أحياناً على جماليات لا يعجزُ أديبٌ موهوبٌ عن التحليق في بحر ألوانها، والمعقّد والشائك بما يعجّ فيه من ممكنات فنية تحتاج الكثير من السنوات لفهم وظائفها ومقاصدها ومراميها.
وسنكتشفُ أيضاً قدرةَ الكاتبةِ على استثمارِ الرموزِ ودلالاتها، بدءاً من العنوان الذي ضمّ مفردتي “الذاكرة” و”الأقحوان” وما بينهما من مطر، مروراً بمدلول هذه المفردات التي كانت ثيمةَ الرواية الأساسية بما اختزنته من أمل أو ألم، وصولاً إلى التقسيم الفني للكتاب (ورقة أولى، ورقة ثانية، ثمانية فصول، وورقة أخيرة).
أما المعادلُ الجمالي، فبدا واضحاً في نهاية الرواية، ويشي ويبشّر بولادة أديبة تمضي بثقة عالية بالنفس إلى هذا العالم السحري، وإن اختلفنا أو اتفقنا معها في أسلوب تعبيرها، تقول في الصفحة الأخيرة: “تقتربُ من الأريكة وعلى الزاوية نفسها التي كان يجلسُ عليها تتحسّسُ دفء عمرها الماضي والقادم، وحين يهدّها التعبُ والنعاسُ تغفو، وقد توسّدت كفها القابضَ على حزمةِ أقحوانٍ ودفترٍ أصفر تجعّدت وريقاته لكثرة ما قرأتها، وفيما هي تغرقُ في نوم عميق.. عميق، تربتُ أصابعُ ناعمةٌ ملائكيةٌ خفيفةٌ على كتفها، تبعثُ الروحَ في جسدها المنهك، فترى نفسها تعتلي غيمةً بيضاءَ تطيرُ في سماءٍ زرقاءَ عالية بلا حدود، تهلّ من بين أشتاتِ الغيومِ الأخرى وجوهٌ تعرفها جيداً، ميسم، مروان، جلنار، رضوان، فيحاء، نغم، عليا، مروان الصغير….، تتشابك الأيدي لتطير معاً نحو مدينة خضراء.. خضراء، ما زالت تنتظرُ عودة من رحلوا ليكتبوا الفصل الأخير على الورقة الأخيرة من الحكاية التي لا بدّ ستصل إلينا يوماً ما”.