بلفور .. وعد باطل أسس لقيام الكيان الصهيوني
د. معن منيف سليمان
جاء وعد بلفور المشؤوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، تعبيراً عن تطابق المصلحتين الاستعمارية البريطانية والصهيونية، وأصبح فيما بعد أساساً لسياسة بريطانيا في فلسطين والوطن العربي، وفرض هذا الوعد على عصبة الأمم التي عدته جزءاً من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد أعطاه الصهاينة فيما بعد التفسير الذي يتناسب مع مصالحهم، وجعلوا منه أساساً لمطالبهم، وأشاروا إليه في إعلان قيام الكيان الصهيوني عام 1948.
تمّ إعداد الوعد وصياغته في خضمّ الحرب العالمية الأولى، عندما كانت بريطانيا العظمى وفرنسا تفكّران في الاستيلاء على المقاطعات العربية التابعة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب، متوقّعتيْن انتصار الحلفاء على قوات المحور بقيادة ألمانيا. وكان سبق لهاتَين القوتَين الغربيتَين أن تفاوضتا بموافقة الإمبراطورية العثمانية، على توزيع المقاطعات العربية بين مجالَي النفوذ الفرنسي والبريطاني، ليكون كلّ من لبنان وسورية تحت السيطرة الفرنسية وكلّ من العراق و شرق الأردن وجزء من فلسطين (منطقة حيفا -عكا، والمنطقة الممتدة من غزة إلى البحر الميت بما فيها النقب ) تحت السيطرة البريطانية. أما باقي فلسطين، فيكون تحت إدارة دولية. ووقّع البلدان على المعاهدة السرية (المعروفة باسم اتفاقية سايكس – بيكو ) في شهر أيار 1916، ولكن لم يتمّ الإعلان عنها على الملأ إلا في تشرين الثاني 1917 بعد الثورة البلشفيّة . غير أنه في المدة نفسها، كان المندوب السامي البريطاني في مصر السير هنري مكماهون ، قد وعد سراً الشريف حسين، شريف مكة، بأنّ بريطانيا ستدعم الاستقلال العربي بعد الحرب، وبناءً على هذه الضمانات أَطلقت قوةٌ عسكرية عربية تحت قيادة الأمير فيصل ابن الشريف حسين، ثورةً ضدّ العثمانيين في حزيران 1916.
وفي الوقت الذي كان فيه الصهيوني “ثيودور هرتزل” يضغط من أجل إنشاء وطنٍ يهودي في فلسطين، أدت النزعة القومية العربية إلى الرغبة في الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية. وإبان اندلاع الحرب العالمية الأولى، قررت بريطانيا، التي كانت تدرك رغبات كلٍ من العرب والصهاينة على حد سواء، استغلال الوضع لتعزيز مصالحها الاستعمارية الخاصة.
ففي عام 1897، عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الافتتاحي في بازل في سويسرا، بهدف إقامة دولةٍ يهودية. وكان التفكير القومي المشترك في تلك الأيام هو أن كل شعب يحتاج إلى وطن، وبما أن الصهاينة يعدون اليهود شعباً بلا وطن، فلا بد من العثور على وطن. كان المكان الأكثر منطقية لذلك، وفقاً للصهاينة، فلسطين.
في الواقع كان وعد بلفور ثمرة جهود مناصري الصهيونية داخل الحكومة البريطانية (بمن فيهم بلفور، ورئيس الوزراء ديفيد لويد جورج ، وعضو مجلس اللوردات هربرت صموئيل ) وخارجها. وقد شغل “حاييم وايزمن”، رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني منذ شباط 1917 والمتحدث الصهيوني الحيوي والمقنع جداً، دوراً بالغ الأهمية في تلك الجهود، إذ كان على علاقة وثيقة وطويلة الأمد مع كلّ من بلفور ولويد جورج وونستون تشرتشل والشخصيات النافذة الأخرى من النخبة السياسية.
من منظور استراتيجي، أمل المسؤولون البريطانيون أن يؤدي “النظر بعين العطف” إلى مسألة إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين إلى كسبهم تأييد يهود الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا جهودَهم الحربية، كما هدفوا أيضاً إلى ترسيخ مطالبتهم بفلسطين بعد الحرب، التي تدعم سيطرتهم على مصر وقناة السويس .
وبناءً على ذلك أصدرت بريطانيا وعد بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917، وقد جاء الوعد على شكل رسالة موجهة من اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد تضمنت الآتي: “إن حكومة جلالته تنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية، وليكن معلوماً أنه لن يعمل شيئاً من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر والمركز السياسي الذي حصلوا عليه”.
وبعد وقت قصير من صدور وعد بلفور دخلت القوات البريطانية فلسطين واستولت على القدس في كانون الأول 1917، ثم لتكمل احتلال البلد مع حلول تشرين الأول 1918. وتمّ فرض حكومة عسكرية في فلسطين، ما سمح ببدء تكريس دعائم الوطن القومي اليهودي على الأرض وفق وعد بلفور حتى قبل انتداب بريطانيا على فلسطين رسمياً: ففي تموز 1920، أصبح صهيوني معروف هو السير هربرت صموئيل، أوّل مندوب سامٍ في فلسطين، وفي آب وافقت الإدارة المدنية الجديدة على أوّل مرسوم هجرة يهودية، فشرَّعت بذلك أبواب فلسطين أمام الهجرات اللاحقة.
في هذه الأثناء، أسس مؤتمر باريس للسلام سنة 1919 عصبة الأمم، وأدخل إلى القانون الدولي مفهوم “الوصاية” المعروف باسم نظام الانتداب. وتوضح المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، أنّ أراضي الدول المهزومة ستخضع “لوصاية الدول المتقدمة” بالنيابة عن العصبة إلى حين تتمكّن من حكم نفسها بنفسها. وعلى وجه التحديد، اعترفت المادة 22 بأنّ المقاطعات العربية التي كانت تابعة للسلطة العثمانية هي “دول مستقلة” خاضعة للمساعدة الإدارية لقوة منتدَبة. وعلى الرغم من أنّ ميثاق عصبة الأمم نصّ على أنّه يجب أن تكون لرغبات المجتمعات “المقام الأول في اختيار الدولة المنتدَبة”، تمّ منح الانتداب على فلسطين (كما شرق الأردن والعراق) إلى بريطانيا في مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920.
دخل الانتداب على فلسطين حيز التنفيذ رسمياً في 29 أيلول 1923، وأبدى السكان العرب منذ البداية معارضتهم لسياسة بلفور بطرق عديدة، بما في ذلك التظاهرات والاشتباكات العنيفة في نيسان 1920 وأيار 1921. وقد سيطرت معارضة وعد بلفور على جداول أعمال اجتماعات المؤتمر العربي الفلسطيني بمعارضة عربية هائلة لسياسة بلفور وتبعاتها.
ولا شك أن هذا الوعد بكل ما يحتويه باطل ولا يستند إلى المنطق والقانون كونه صدر عن دولة لا صلة لها بالموضوع الذي يتناوله التصريح، ذلك أن بريطانيا لم تكن قد احتلت فلسطين وليس لها أية مسؤولية على الجماعات اليهودية، وبالتالي هو وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق، ومن جهة أخرى صدر عن دولة إلى هيئة غير رسمية هي الوكالة اليهودية التي ليس لها صفة تمثيلية في فلسطين وليس لها أية علاقة بها.
ويتنكر التصريح لتعهدات بريطانيا للعرب بالاستقلال، وحق تقرير المصير، حسب الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين ومكماهون عام 1915، كما يتناقض مع نفسه كونه ينص على إقامة وطن قومي للجماعات اليهودية في فلسطين، وفي الوقت نفسه المحافظة على حقوق الطوائف غير اليهودية تلك المعادلة غير المنطقية، حيث أثبتت الأحداث أن الكيان الصهيوني منذ قيامه حتى هذا الوقت يواصل انتهاكاته لحقوق الشعب الفلسطيني المدنية والدينية والسياسية.
ويحمل التصريح تناقضات أخرى في طياته مثل عدم مراعاته للأكثرية الساحقة من عرب فلسطين في حين يظهر حرصه على الأقلية اليهودية وحقوقها داخل فلسطين وفي البلدان الأخرى، وإن هذا التصريح يؤكد أن سلوك القوى الكبرى لا ينبثق من اعتبارات الحق والإنصاف، ولا من قوتها ودقة نصوصها، أو شرعية منطلقاتها بقدر ما تستقيها من مضمون الأمر الواقع وحكم القوي للضعيف.
وهكذا يعدّ وعد بلفور الذي التزمت فيه بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى بتأييد إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، أحدَ أكثر الوثائق السياسية تأثيراً في القرن الماضي، فإدراج هذا الوعد ضمن صك انتداب بريطانيا من عصبة الأمم على فلسطين، يعني بشكل أو بآخر أنّ القانون الدولي يضمنه، ولهذا أصبح وعد بلفور المبدأ التوجيهي للحكم البريطاني للبلاد خلال السنوات الثلاثين التالية، ليتمّ تنفيذه النهائي مع قيام الكيان الصهيوني في سنة 1948، ما غيّر وجه الوطن العربي وتاريخه.