ترجمة الشعر عبور محفوف بالمخاطر
أمينة عباس
مذ قال الجاحظ “الشعر لا يُترجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطَّع نظمه، وبطلَ وزنه، وذهب حسنُه، وسقط موضع التعجب منه” ونقاد كثيرون يحذون حذوه، فانتشرت مقولات مثل “للشعر روح غير ظاهرة، تختفي أثناء سكبه من لغة إلى أخرى”، و”ترجمة الشعر محاولة عقيمة مثل نقل زهرة بنفسج من تربة أنبتتها إلى مزهرية”.
وعلى الرغم مما قيل سابقاً والجدل الدائم الذي تثيره ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى، لكن ترجمة الشعر أمر واقع ولا يمكن الاستغناء عنه، لأنه الوسيلة الأكثر شيوعاً للوصول إلى الآثار الأدبية العالمية، لذلك لا يتردد بعضهم في خوض هذا المجال المحفوف بالمخاطر، ومنهم م.أحمد الزعبي الذي كانت تجربته في هذا المجال عنواناً لندوة عُقدت، مؤخراً، في المركز الثقافي العربي في “أبو رمانة” بمشاركة الشاعرة طهران صارم والمترجم أ.محمد العاني، وكانت الغاية من هذه الندوة وضع مقتطفات من ترجمات الزعبي أمام القراء والمهتمين واختبار مدى وفائه لمعايير الترجمة الشعرية بشكل خاص من قبل المختصين في هذا الشأن.
يحدّثنا مدير الندوة الإعلامي علي الدندح في تقديمه لأحمد الزعبي قائلاً: “استطاع وهو المهندس أن يجمع بين العلم والأدب، وأن يدخل معترك الشعر عبر الترجمة من خلال نقل الشعر من اللغة الإنكليزية إلى العربية ومن العربية إلى الإنكليزية عبر عبور محفوف بالمخاطر على صعيد المعنى والمبنى، فترجمة الشعر ليست مهمة تقنية تتحقق بنقل كلمات وأساليب ومضامين إلى قارة لسانية أخرى طالما أن القصيدة أبعد من كونها مجرد تراكيب لغوية بل هي تقوم على أصوات وموسيقا وايقاعات تتعايش في تناغم خلاق، من هنا فإن المترجم مطالب بإنجاز مهام عسيرة في ترجمته للشعر، وهو ما نجح فيه الزعبي عبر تجربته التي أثمرت كتابين في هذا المجال”.
ويقول الزعبي: “وضعتُ لنفسي معايير لترجمة الشعر تحفظ له خصائصه بعد الترجمة وتحافظ على جماله وإيقاعاته، وألزمتُ نفسي فيها، ثم نشرتُ هذه الأعمال في كتابين مستقلين، واحد للشعر الإنكليزي المترجم إلى العربية “تعريب القصائد الإنكليزية” والثاني للشعر العربي المترجم إلى الإنكليزية، أما المعايير فهي ترجمة الشعر الموزون والمقفى إلى شعر موزون ومقفى، والحفاظ على مشاعر الشاعر والجوّ العام للقصيدة، واختيار المفردات التي تضع القارئ في جو وظروف القصيدة الأصلية، كذلك التعاطي المناسب مع التشابيه والكنايات والاستعارات المكنية والتي قد تتباين بين الثقافتين العربية والإنكليزية، ونقل ما يرد في القصيدة من معلومات كالأسماء والتواريخ والأرقام والأماكن والأحداث التاريخية بكل أمانة”.
ويتفق الزعبي مع مقولة “أقدر الناس على ترجمة الشعر هم الشعراء أنفسهم” ويقول: “لو لم تكن عندي محاولات في كتابة الشعر لما تمكنتُ من خوض التجربة لأن ترجمة الشعر لاتطال الكلام فقط، فالصعوبة الأكبر التي تواجه مترجمه تكمن في نقل الموسيقا والمشاعر والأحاسيس وقراءة ما بين السطور، وهذا يتطلب من المترجم الصبر والمثابرة لأن ترجمة قصيدة واحدة قد تستغرق عدة أيام”.
وعند ترجمة أحمد الزعبي للشعر الإنكليزي إلى اللغة العربية يتوقف المترجم محمد العاني في بداية مشاركته ليقول: “اختار الشاعر قصائد لشخصيات بارزة مثل السير توماس وايت وويليام شكسبير ولورد بايرون وويليام ووردزورثوهو أمر يشير إلى طموحه الأدبي والرغبة في إجراء حوار بين النصوص من خلال تقديم الأعمال الكلاسيكية الغربية إلى الأدب العربي، كما يشير اختياره إلى أنه يقدّر الحوار بين الثقافات ويهتم بالتبادل الثقافي ويدرك قيمة تقديم هذه الأعمال للمتلقي الناطق بالعربية، وقد دلّت ترجمته على مهارة وحساسية المترجم للإيقاع والاستعارة والعاطفة والتفاصيل اللغوية والشعرية الأخرى، معبّراً من خلالها عن فخره بلغته وثقافته، مُظهراً قدرتها على نقل الأفكار والمشاعر المعقدة عبر لغة فصحى تتناسب مع النغمة الوقورة لهذه القصائد، مع محافظته على القافية والوزن بما يتناسب مع النص الأصل، مظهراً مهارة شعرية وتوازناً بين الوصف الحي والاستعارات، ومعتمداً كذلك في ترجمة القصيدة العربية إلى الإنكليزية على دقة في اختيار المفردات، ومتوخياً تماشي إيقاع القصيدة مع إيقاع النص الأصل، مع تقديمه للكثير من الصور فيها، ومحافظته في الوقت ذاته على نبرة النص الأصل وتركيزه على الحنين والعاطفة”.
وبعد أن يورد العاني في كلامه أنموذجين من ترجمات الزعبي هما قصيدة “On a Dead Child” للشاعر الإنكليزي “روبرت بريدجو” و”القصيدة الدمشقية” لنزار قباني التي ترجمها إلى اللغة الإنكليزية، يتوقف طويلاً عند مهارة الزعبي في ترجمته، مورداً بعض الملاحظات القابلة للنقاش حول ما جاء فيهما لبعض المفردات، ليختتم قائلاً: “تجربة الزعبي في ترجمة الشعر مهمة ومميزة، وكلّ ما قيل حول ترجمة الشعر لا يمنع المترجم من خوض غمارها في جميع المجالات”.
وتتفق الشاعرة طهران صارم مع ما قاله الكاتب الراحل ممدوح عدوان حول أن “الشعر هو ما ضاع في الترجمة” في حال كان المترجم ضعيفاً غير متمكن من أدواته ويعوزه الإحساس المرهف بلغة الشعر، وهذا لا ينطبق على تجربة أحمد الزعبي التي تعدّها “تجربة مميزة، استطاع فيها أن ينقل الشعر من لغته الأم إلى لغة أخرى، وبالعكس، متحدياً المصاعب التي تواجه المترجم عند نقل النص الشعري بوجه خاص، وهي عملية تحتاج إلى فهم وإدراك عاليين من المترجم للنص الشعري بخصائصه التخيلية وصوره البلاغية والشعرية وكلما يرد فيه من كتابات واستعارات وغيرها، ولعل أول ما يقف في وجه المترجم هو نقل العاطفة والإحساس ضمن إيقاع شعري موسيقي”.
تساؤلات عديدة تطرحها صارم في حديثها، ومنها: هل استطاع الزعبي نقل الكثافة الشعرية في اللغة العربية إلى اللغة الأخرى بنفس الدهشة والجمالية اللغوية؟ وهل كان موفقاً في نقل الوزن العربي إلى شكل من أشكال الإيقاع والتناغم اللفظيفي اللغة المترجَم إليها؟ وللإجابة على هذه التساؤلات تذكر طهران صارم أمثلة من ترجماته إلى اللغة الإنكليزية، لتنتهي إلى قول: “من يعرف الإنكليزية يدرك تماماً كيف نجح الزعبي في نقل الشعر بانسيابية وموسيقا يشعر بها القارئ الأجنبي، محافظاً على الإيقاع ومقرّباً الصور الشعرية في النص العربي إلى صورة مبتكرة في النص الإنكليزي، وهو ما ينطبق أيضاً على ترجمة الزعبي للنصوص الشعرية من العربية إلى الإنكليزية، مع الإشارة إلى أن الصعوبة التي قد يواجهها المترجم تكمن في حال قرر نقل الشعر الإنكليزي إلى العربية حسب بحور الخليل وأوزانها، وهنا أشيد بتجربة الزعبي في هذا المجال، وقد برع في ذلك من دون أن ينقص شيئاً من الصورة الشعرية أو الفكرة في النص الأجنبي، حيث نقل بعض أشعار شكسبير إلى العربية على البحرين الكامل والخفيف”.
وتختتم طهران صارم كلامها بقول: “موضوع مناقشة الترجمة الشعرية من المواضيع التي يطول فيها الحديث، وغالباً ما اختلف حولها النقاد والمترجمون، لكن تبقى تجربة كلّ مترجم حالة خاصة، وبقدر إدراك وفهم المترجم للنص الأم فإنه سينجح في نقله للّغة الأخرى”.