ما نخشاهُ اليوم.. “إبادة الحلم العربيّ”!
وجيه حسن
من باب تدوير الزّوايا، ومن نافذة التّخمين والتّأويل والتّحليل، قد يكون العرب من أكثر الشعوب استخداماً للتّسويف والتّأجيل والانتظار، لأنّ حاضرهم مسلوبٌ مُصادَر، وزمنهم الماضي قد أوشك أنْ يفرغ من حمولته، وإرثه التّليد، لكثرة ما استحلبُوه، وأسقطُوا عليه الكثير الجَمَّ من رغائبهم البائخة، ومن تسويفاتهم الخَرْقاء.. وبرغم ما لدينا من دراسات مستقبليّة وإستراتيجية، فإنّ الشعوب توشك أنْ تهبَّ من هذا القاع المُحاصَر، المملوء بالأفخاخ والأفاعِي والخَيْبات، إلى الآتي المنشود، إذْ “لم يبقَ لها إلّا المستقبل، هو حصّتها منْ هذا الزّمن المُحتلّ”، على حدّ قول أحدهم!
والعربيّ “المُؤَجَّل”، هو الذي يجد نفسه مُحاصَراً بِعُقر روحه وأرضه وحريّته وبيته، ممنوع حتّى من الأنين والتذمّر والشّكوى والبَوْح واليقظة والنهوض، حتّى ولو تحوّلت جروحه النّازفة، إلى فمٍ ثرثارٍ بالدّم والألم والأسَى! فهو ما أنْ يظفر باستقلالٍ نسبيٍّ، ويكشط عن قلبه وعقله صدأ “الاستعمار” البغيض المتوحّش، حتّى يجد نفسه مُكبّلاً بارتهاناتٍ عدّة، وقيودٍ شتّى.. فهو يسمع بعقله وأذنيه وقلبه عن “المجتمع الأهلي”، عن “الحقوق”، عن “الحريات”، بدءاً من أدناها الشخصي، لأقصاها السياسي، لكنّه لم يتذوّق، حتّى اليوم شيئاً منْ هذه “الفاكِهة المُحَرَّمَة”..هو يعاني، يحصي أيامه وأنفاسه بين المطارق والسّنادِين، لا يعرف هُويّة القبضة التي سَتَهوي على أمّ رأسه بالضّربات المُوجِعات، وأشدّها إيلاماً: ضربات “ذوي القُرْبَى”، الذين أضحُوا اليوم – ويا للأسف – “ذوي البُعْدَى”، أرباب التّآمر الفاضح الفاجر المُبيّت على أبناء جِلدتهم وعروبتهم وقوميّتهم..
العربيّ اليوم مُؤَجَّل، ممنوع عليه بلوغ سنّ الرُّشد، والخروج عن الوصاية، متعدّدة الرّؤوس والأشكال والبصمات والانحناءات، في البيت والشارع والسوق والمجتمع والمدرسة والجامعة، وغرف السياسة المُغلقة والمَكشوفة…
كلّ ما يحدث على السّاحة اليوم، يُغري المُحايِد البلِيد بمواصلة الاعتقاد، “أنّ الانتظار عقيم، والآتي سقيم”، وأنّ الأمّة التي نُزِع منها فَتيلُ القوّة، ودسمُ الإرادة، أضحت اليوم رُكامَاً من اللّحم الهَشّ، بل إسفنجة بملايين الأفواه الفاغِرَة، التي تخلو من الألسنة، ونعمة النّطق، وصدى الكلام.. لكنّ سليل هذا الدم العربي، والابن غير العاقّ للأسلاف الأماجِد، الذين تقاطر سلسبيل الطّهر والإباء والكرامة من أرواحهم وأنْباضهم، قد لا يمتثل لموعظة الغُراب، وقد لا يغمد رأسه بين كتفيه كالنّعامة، قائلاً بلسانٍ فصيحٍ مُبين: “لا أعتقد أنّ الدّور التاريخي للنُّخب المُتنوّرة بوطننا العربيّ الكبير، هو دَوْرُ النّدابة المُحترفة، المتنقّلة منْ عزاءٍ إلى عزاء، كي تعدّد محاسن الموتى وأمجادهم، مقابل حفنة ذليلة وضيعة من المال”!
دَوْرُ المثقّفين المُتنوّرين الحقيقيين، “والتّنوير في العادة يأتي من داخل الإنسان، من عقله”، يتجلّى في اجترَاح الطريق بالغابة، وتعليق الأجراس بأعناق النّمور، وليس القطط والكلاب والمتآمرين فقط!
لكنّ الأمْصال، واللقاحات المُستورَدة المغشوشة، “حتى الشّقيقة منها، يا للعار”، التي يُحقَن بها هذا العربيّ المُسْتلَب، تشلّ مناعته، تصيبه بـ “أنيميا” حادّة بذاكرته، وضميره، وشرايين “عروبته”!
التاريخ المستقبلي الآتي،لا يصنعه الفَسَدَة الفاسِدون، ولا المتهوّرون المَوْتورون، ولا المتلوّنون المأجُورون، ولا العُملاء السّاقطون، ولا اللّا وطنيّون، ولا المُستغلّون، ولا الانبطاحيّون، ولا البَلِيدُون، ولا الذين خانوا تراب الوطن، وبَشرَه وشجرَه وحجرَه، ألم يقل شاعر يوماً:
“وَطِنِي لوْ شُغِلتُ في الخُلْدِ عَنْهُ نازَعَتْنِي إِليهِ في الخُلْدِ نَفْسِي”؟!
إنّ عزوفنا عن قراءة التّاريخ قراءة مُعمّقة مُسْتأنية، والاكتفاء بمتابعة “فَبْرَكات الإعلام الغربي المُضلِّل الآثم”، هما اللذان يُفقِران “مصدّاتنا” الذهنيّة، و”دفاعاتنا” الرّوحيّة ضدّ وابلِ التّزوير، وخباثة النيّات، وإساءة المُسِيئين..
الحرب الإجراميّة الضّروس، متعدّدة الرّؤوس والأذناب والأيادي والوجوه، التي شُنّت على “سورية الأمّ”، بمنتصف شهر آذار من العام 2011 م، هي حرب مُعلنة بالفعل على “العرب المُؤَجَّلين”، والدَّور يُماشِيهم كالظلّ، إنْ عاجلاً، وإنْ آجلاً.. وقد لا يكون هدف الحرب القائمة حالياً، أو تلك المُؤَجّلة، هو الإبادة الجسديّة فقط، ما نخشاه اليوم، هو “إبادة الحلم العربيّ”، والقبول النّهائيّ بالإملاءات الخارجيّة الظالمة، ومصادرة أشواق الحريّة لدى جماهير الأمّة من مائها لِمائها، أي من الخليج للمحيط!!
إنّ كلّ ما في هذا العربي – “العُرْبَاني” مُؤَجَّل: عقله، ثقافة التّغيير لديه، اقتصاده، بتروله، غازه، مستقبله، قراره السياسي الحرّ المستقلّ، وحتّى أحلامه المنشودة، وتطلّعاته المشروعة، فهو منذ نصف قرن وأزْيَد، لا يزال يعلك اللّجام ببلاهة وغباء.. يجترّ شعاراتٍ خاوية، وَعَدَتْه بالفردوس الموعود، جاءته من “نُخبٍ” استعماريّة ضالّة مُضلّلة، مستعدّة للبرهنة، (أنّ الفيل يطير، وأنّ الفراشة تُرْهِبُ الغابة)..
العربيّ الحقيقيّ اليوم.. خنادقه متعدّدة.. دروبه شتّى.. يدافع عن حريته ليستخدمها بحربه المُؤَجَّلة، وهو إذ يشتبك بيدين ناحِلَتين، وأصابع عَزْلاء، ضدّ أخطبوطات الفساد والرّشوة والجهل والتخلّف والفقر والفوضى والبطالة والاصطفافات الضيّقة، فإنّه يجد نفسه فريقاً بإنسان فرد.. وحسب أبسط بدهيّات التّاريخ، فإنّ هذا الضّرب المتواصل على مؤخّرة الرّأس،”قد يفضِي اليوم، أو غداً، أو بعد غدٍ، بكلّ توكيد، إلى ما لا يسِرُّ الضّارِبِين الحاقدين”..
و(إنّ غداً لناظرِه قريب)!!