بحوث موسّعة وقراءات في “ملتقى حنّا مينة للإبداع والأدب”
اللاذقية- عائدة أسعد
احتفاءً بمرور مائة عام على ولادة الأديب السوري الراحل حنّا مينة، اجتمعت مجموعة من الأدباء وأهل الفكر والمعرفة في دار الأسد للثقافة في اللاذقية، في “ملتقى حنّا مينة للإبداع والأدب”.
وفي الأول اليوم من الملتقى، قال الشاعر والأديب د. عيسى درويش: “حنا مينة الأديب العصامي ابن الشعب الذي عاش معه، وكتب من أجله، ودعا إلى تحريره من الظلم والاستغلال وتوعيته لنيل حريته، والتعبير عنها وتحقيق إنسانيته وغاية وجوده في الإطار الإنساني الشامل”، مضيفاً: “كانت مدينة اللاذقية ومجتمعها والبحر والبحّارة منطلقاً لبناء عالمه الروائي الواسع، متنقلاً بين الواقع الاجتماعي وعوالمه الداخلية ودواخل النفس الإنسانية، وما تحتويه من مشاعر الحب والشقاء والمعاناة وصراع الإنسان مع الشر، ولا نستطيع أن نقول عن حنّا مينة أكثر مما قاله عن نفسه “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، فالكفاح له فرحه وله سعادته وله لذته القصوى عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء لا تعرف بعضهم وجهاً ولكنك تؤمن في أعماقك أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل”، وهكذا نستطيع من كلامه التعرف على انتمائه إلى المدرسة الواقعية في الأدب، وعلى أن البدايات كانت في حيّ المستنقع في أنطاكية، ويقول مينة في حديث آخر عن نفسه: “لحمي سمك ودمي ماءه المالح وصراعي مع القروش صراع حياة وأنا البحر وقد ولدت فيه”.
وتابع د. درويش بالقول: “نستطيع أن نستخلص من حديثه أن صراعه مع القروش فيه تلميح إلى قروش البحر، وإلى قروش الاقتصاد الذين يبتلعون ثروة الفقراء، وأنه يعلن عن اختياره للكفاح في سبيل الإنسان وحريته كما هو البحر واسع وفسيح يمنح الحرية لساكنيه، وهنا نخلص أن حنا مينة ومن خلال إيمانه أن التجربة الفكرية هي وعي اجتماعي وكتاباته تصف إيمانه بالواقعية الاشتراكية”.
وسلط د. درويش الضوء على أول رواية لمينة وهي “المصابيح الزرق” المنشورة في عام 1954 والرواية الثانية “الياطر” وختم بالقول: “لا أستطيع أن أحيط بإبداع كاتب خلده التاريخ من خلال أعماله الروائية العديدة واختتم بقول نجيب محفوظ “كنت أعتقد بأن حنا مينة هو الأجدر بجائزة نوبل”.
بدورها، قدّمت القاصة والباحثة نور نديم عمران محاضرة بعنوان “حنا مينة قاصاً- الأبنوسة البيضاء أنموذجاً”، وذكرت في بداية حديثها أنها تقصّدت البحث في هذا الجانب الإبداعي عند مينة لندرة الدراسات والأبحاث التي اشتغلت على ذلك، وعلى الرغم من عدم اهتمام حنا مينة ذاته بتجربته القصصية غير أنها وجدت فيها ما يستحق الكثير من البحث والاهتمام، مركزةً على نماذج من قصص “الأبنوسة البيضاء” التي تتجه جميعها إلى انتهاكات المادة للذات الإنسانية؛ إذ يرصد مينة كما ذكرت ما يتردّد في مجتمعه من بطش بالقيم والمثل، ويعاين أثر الخراب في النفس البشرية، ويهتمّ بوقع الحدث على الشخصية أكثر من اهتمامه بالحدث ذاته، ويهرب بالخيال لاختلاق أحداث أفضل بتأثيرها على الشخصيات، وعلى سيرورة الحكاية.
ثم استعرضت الباحثة عمران نماذج قصصية حللتها في ضوء ذلك، أظهرت جمالياتها وتفصيلاتها، مؤكدة أن مينة تعامل مع الموضوعات المطروحة بجرأة تنطلق من رؤية واضحة تعري وتكشف الواقع من دون أن تحاول تجميله لجعله أفضل، ومشيرةً إلى أن هذه القصص تسرد حكاية وجع، وتؤدي وظيفتها المعرفية والجمالية معاً، فتصير أشبه بصرخة احتجاج، وكأن القاص ينطلق من النقص لا من الاكتمال، من الهزائم الاجتماعية والإنسانية ويظهر تشاؤمه من الواقع العربي، ثم جمعت السمات الأساسية التي اشتركت فيها قصص الكاتب وقدمتها من خلال عرض ختامي موجز.
وفي فعاليات اليوم الثاني من الملتقى، أقيمت ندوة فكرية أدارت حوارها الأديبة نور عمران، شارك فيها نخبة من أساتذة جامعة تشرين، وتحت عنوان “حنّا مينة بين مطرقة النقد الأدبي وسندان النقد الثقافي في رواية نهاية رجل شجاع أنموذجاً”، قال الدكتور أزدشير نصّور: “يقف المتلقي عند ثلاث عتبات نصية بنظرة بانورامية قبل الولوج إلى مساحات الوعي واللاوعي التي يملؤها النّقدان، فالبّحار الكادح الذي تربع عرش الرواية السورية الاجتماعية الواقعية، جاعلاً البحر بوصلته وسط مرجعيات سردية استند إليها في متنه الحكائي؛ من حرب عالمية واستعمار فرنسي وغير ذلك، حيث يقول حنا مينة: “إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب”.
وتابع القول: “لقد وقف النّقد على أبواب روايات حنا مينة من منطلق تعريف النقد الأدبي بوصفه كلاماً على كلام كلامٌ، أداته اللغة للحكم على كلام آخر هو الأدب ليأتي النقد الثقافي، ناقلاً الدّفة من بحار النخبة إلى الجمهور، ومن الخاصة إلى العامة، ومن الأدب إلى الفن بعامة وبين هذا وذاك جاءت انساق الرجل الشجاع بنهايته الدراماتيكية ليحفر فيها النقد الثقافي ويحفر في إحفوريات اللاوعي والمسكوت عنه خلف عباءة البلاغة وجمالياتها فما قطع “مفيد” قدمه المريضة إلا إعادة تدوير للتاريخ بعد أن قطع هو ذنب حمار جاره، في تصوير لنهاية قد تحمل الجبن واليأس بعد مسيرة الشجاعة والمغامرة التي رافقت صباه، وكأن الحياة تنتقم من طيشه ورعونته لتكون نهاية رجل حمل تناقضات النفس البشرية بين الممكن والحلم”.
وتحت عنوان “فلسفة الحب عند حنا مينة” تحدثت الدكتورة ليلى مغرقوني عن روايته “الرجل الذي يكره نفسه”، مركزةً على أسس فلسفية تجسّد شخصية أعانت حنا مينة بروايته هذه التي ألفها في عام 2003 على تسويغ سلوك شخصيات، استكمالاً لروايته “حكاية بحار” التي ألفها في عام 1980 لتبين مصيره خلال 23 عاماً وحقيقة غيابه في سجون الاحتلال الفرنسي”.
كما ركّز البحث على أسس فلسفة الحب عند مينة في روايته المذكورة التي تتجلى عبر علاقة البطل بزوجته والعلاقة العكسية بين الحب والقوة ومع عشيقته، فهناك آفات تصيب الحب وتؤدي إلى تلاشيه، لكن الزمن كفيل بالغفران حتى لو كانت الخيانة هي الخطيئة والفشل في الحب يحيله إلى التسامي به ليكون دفاعاً عن الوطن أو حباً للبحارة والمقهورين, وما يلفت النظر هو أنّ مينة اختار فلسفة الحب في روايتيه المتباعدتين في الإصدار بعد أن خبر الحياة جيداً، وغدا أكثر حكمة وتصالحاً مع نفسه في موضوع كان جاذباً في الفن والأدب.
أما الدكتورة نضال القصيري فآثرت الحديث عن موضوع مختلف لأديبة مختلفة، إذ قدّمت دراسة مفصلة لإحدى روايات الأديبة السورية أنيسة عبود، تحت عنوان: “سرد الأنثى في رواية باب الحيرة”.