دراساتصحيفة البعث

قمة قازان.. عهد جديد

ريا خوري

استضافت روسيا الاتحادية على ضفاف نهر الفولغا في مدينة قازان أعمال القمة السادسة عشرة لمجموعة دول الــ(بريكس) يومي 22- 24 تشرين الأوّل الفائت، تلك القمة كانت بمثابة صرخة عالمية بحق جميع الدول الصاعدة التي تسعى لتحقيق وجودها الكبير ودورها على الساحة الدولية، وتساهم بقوة في مسار التغييرات والتحولات الدولية الراهنة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى رغبة روسيا أن تؤكد للعالم أجمع بأنها دولة قوية وتساهم في العمل السياسي والاقتصادي والعسكري العالمي، وأنها دولة غير معزولة عن العالم، ولا تعاني من أي عزلة يزعم الغرب وجودها.

عُقدت تلك القمة على الرغم من كلّ التحديات التي يواجهها الاتحاد الروسي جراء الحرب الساخنة في أوكرانيا، وتصعيد دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) ضده، خاصة وأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الغرب الأوروبي عملوا على الضغط على عدد كبير من دول العالم التي وجّهت لها روسيا الاتحادية الدعوة للمشاركة في تلك القمة، إما بتقليص مستوى ما تمثله الوفود المشاركة أو بعدم حضورها القمة. وكل ذلك من أجل التأكيد على عزلة روسيا، وإحباط جميع مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتحقيق مشروع سياسي عالمي.

وعلى الرغم من كلّ ذلك، فإنّه، وفقاً للمعطيات المتوفرة والتي صرَّح بها يوري أوشاكوف مساعد الرئيس الروسي لشؤون السياسة الدولية حول قمة البريكس، فقد شارك ممثلو اثنتين وثلاثين دولة، بينهم أربعة وعشرون رئيساً أو رئيس وزراء، علماً أن الدعوة لحضور القمة كانت قد وجِّهت إلى ثمان وثلاثين دولة. ويعتقد يوري أوشاكوف أنَّ التمثيل الجغرافي رفيع المستوى والواسع النطاق في قمة “قازان” يشهد على دور مجموعة دول الــ”بريكس” المتصاعد، ومكانتها الكبيرة والمهمّة على الساحة الدولية. ويمكن الثقة التامة في هذا الاعتقاد الذي يمكن أن يكون مؤكّداً استناداً إلى عاملين اثنين، العامل الأول القوة والمكانة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والامتداد الاستراتيجي لدول هذه المجموعة، والعامل الثاني الرغبة الشديدة المتزايدة لعدد كبير من دول العالم التي تسعى للخروج من تحت عباءة الولايات المتحدة والغرب الأوروبي، والسعي الجاد لكسب عضوية مجموعة الــ”بريكس”، حيث بلغ عدد سكان دول المجموعة بعد ضمّ خمس دول جديدة إليها هذا العام بقرار من القمة الخامسة عشرة التي عقدت في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا في الفترة من 22 إلى 24 آب العام الماضي، ليصبح عدد الدول الأعضاء عشر دول هي الدول الخمس المؤسسة: جمهورية الصين الشعبية، وجمهورية روسيا الاتحادية، والبرازيل، والهند، وجنوب إفريقيا. والدول الخمس الجديدة وهي: جمهورية مصر العربية والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية وإثيوبيا.

الجدير بالذكر أنَّ عدد سكان دول مجموعة الــ”بريكس” بلغ اليوم نحو ثلاثة مليارات ونصف المليار نسمة، وهؤلاء يشكلون ما نسبته خمسة وأربعين بالمائة من سكان كوكبنا، وتبلغ قيمة اقتصاداتها نحو ثمانٍ وعشرون تريليون وخمسمائة مليون دولار أمريكي، ما يقدّر بنحو ثمانية وعشرين بالمائة من الاقتصاد العالمي.

ولعلَّ جملة تلك المعطيات والإمكانيات هي التي دفعت الرئيس بوتين إلى التأكيد أنَّ مجموعة دول البريكس ستطوِّر حالات النمو الاقتصادي العالمي في الأعوام القادمة بفضل حجمها وقدراتها ونموها السريع نسبياً مقارنة بالنمو الاقتصادي في الدول الغربية المتطورة، كون الدول الأعضاء في مجموعة دول البريكس تلعب دوراً رئيسياً في الاقتصاد العالمي، وتساهم بقوة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي في العالم.

من الواضح أن روسيا الاتحادية لعبت دوراً قوياً وفاعلاً في هذه القمة، فقد ساهمت في طرح العديد من الحلول لمعظم الأزمات الاقتصادية والإنجازات التي يمكن أن تتحقق قريباً، ومن تلك الأدوار الفاعلة تأسيس عملة مالية موحدة لمواجهة هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة ورمزها الأكبر الدولار الأمريكي على الاقتصادات العالمية. لذا فإنّ الرئيس بوتين يأمل أن يكون هناك بناء جديد للنظام العالمي للمدفوعات المالية لمهاجمة هيمنة الولايات المتحدة على المالية العالمية وحماية روسيا وأصدقائها من العقوبات، لأنَّ من شأن نظام مدفوعات الــ”بريكس” أن يسمح بالعمليات الاقتصادية من دون الاعتماد على من قرّروا تحويل الدولار واليورو إلى سلاح. ومن المقرر أن يتمّ بناء هذا النظام، “جسر بريكس”، خلال عام واحد، وسيسمح للدول بإجراء تسوية عبر الحدود باستخدام منصات رقمية تديرها بنوكها المركزية.

لم يتوقف الدور الروسي في هذه القمة عند هذا الحدّ، بل سعى الكرملين إلى ترتيب قسمين للقمة، القسم الأوَّل تمّ تخصيصه لمناقشة العديد من القضايا وفي أولوياتها قضية التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين، وهي القضية التي يعتبر شعار الرئاسة الروسية لمجموعة دول الــ(بريكس) في دورتها السادسة عشرة تحت الرئاسة الروسية.

أما القسم الثاني، وهو القسم الموسّع للنقاش والحوار المشترك الذي يأخذ صيغة (بريكس بلس) الذي يضمّ أعضاء القمة وممثلي الدول والضيوف المشاركين التي أعربت عن رغبتها في الانضمام للمجموعة، فهو يركز على البُعد السياسي بالدرجة الأولى الذي تتطلع إليه القيادة الروسية لكون اللقاء هذا يعقد تحت شعار (بريكس والجنوب العالمي.. بناء عالم أفضل بشكل مشترك). وهنا بالتحديد نجحت القيادة الروسية وعلى رأسها الرئيس بوتين في حلّ الخلاف المثار على دعوة توسيع المجموعة أم الاكتفاء بالعضوية الحالية “عشرة أعضاء”، حيث جرى كتابة صيغة جديدة وهي “الدول الشريكة لمجموعة بريكس”.