مازن المحملجي.. ومسيرة طويلة في توثيق التراث الدمشقي شعراً
أمينة عباس
لم يكن الشعر بالنسبة للشاعر مازن المحملجي الذي يُلقَّب بـ”شاعر دمشق” في يوم من الأيام ترفاً، بل رسالة يدرك معانيها ويسعى من خلالها إلى ألا يغرد خارج سرب ما يحدث حولنا، فلم تستهوِه الألغاز ولم يغرق في بحر التهويمات التي تغري الكثير من الشعراء وتجعل القارئ حائراً حول فحواه، فكتب شعراً واضحاً لا لبس فيه لخّصته دواوينه الشعرية التي أصدرها تباعاً، وكان آخرها ديوان “كلمات على جدار الزمن” الذي احتفى به، مؤخراً، المركز الثقافي العربي في أبو رمانة عبر ندوة أدارتها أ. نوار الشاطر ومشاركة د. أسيل مصطفى وأ. زياد الجزائري.
يؤمن مازن المحملجي بأن الشاعر الحق هو مرآة مجتمعه وصوته الهادر المعبّر أصدق تعبير عن قضاياه وجراحه النازفة وذلك على جميع الأصعدة، وها هو يحدثنا عن ديوانه قائلاً: “أؤكد أنني لا أكتب لذاتي فحسب، إنما أكتب للمجتمع والتاريخ، لذا نثرت في حديقة هذا الديوان قصائد عديدة تصبّ في باب النقد الاجتماعي الذي يعالج العديد من الظواهر الاجتماعية السائدة، بدءاً مما يحدث في الطريق، مروراً بمأساة غرق المهاجرين في البحار وانتهاء بحرب غزة، وهذا الأمر يغفل عنه كثيرون من شعراء اليوم، وأنا أراه تقصيراً من هؤلاء الشعراء الذين ما فتئوا يتحدثون عن أهوائهم ورغباتهم ونزواتهم، متجاهلين ما يحيط بهم من أحداث جسيمة ومآس عظيمة ينبغي أن تكون حاضرة في نتاجهم، مع تأكيد أن ما يميّز الشاعر الحقيقي قدرته على الكتابة في مختلف الموضوعات والأغراض الشعرية، فعلى الرغم من اهتمامي بالثقافة العلمية المتعلقة بعلوم الفلك والفضاء، لكنني لم أتوقف يوماً عن التغنّي بمحبوبتي دمشق، فخصصتُها بالعديد من القصائد، واصفاً بيوتها العريقة وطبيعتها الساحرة ومغانيها الغنّاء التي تجلو صدأ النفوس، فأنا شاعر دمشق الذي أذاب قلبه عشقاً لها، فسكب لها من روحه أروع الأشعار وبديع الأناشيد”.
وكان الاحتفاء بديوان “كلمات على جدار الزمان” فرصة للمشاركين في الندوة للحديث عن الشاعر المحملجي وتجربته الشعرية وأكثر ما يميزها، فبعد مقدمة تحدث فيها أ. زياد الجزائري عن واقع الشعر اليوم الذي لا يمتّ لمفهوم الشعر برأيه يبيّن قائلاً: “إن الذي دفعني إلى هذه المقدمة هو وصف الأضداد لمعرفة قيمة الإبداع الحقيقي في شعر المحملجي الذي استوفى في شعره كلّ شروط الإبداع في الشعر العربي الخالد من ثقافة ولغة وخيال جامح وبراعة في تخيير الألفاظ المناسبة للمعاني والغرض الشعري دون إسفاف ولا تعقيد مع تنوع كبير في المواضيع التي يعكس من خلالها كلّ ما يدور في عصره ويتفشى في مجتمعه، فلا يرزح في برجه العاجي مصوّراً معاناته الشخصية فحسب، بالإضافة إلى أنه لا يترك مناسبة إلا ويعبّر عن عشقه الصوفي لمدينته دمشق، فيهيم في شغفه بها والذي لا ينفصل عن عشقه لعروبته، فما أصاب الأمة خطب أو خلل إلا وسجله شعراً صادقاً ومؤثراً”.
وشبّهت د. أسيل مصطفى أسلوب المحملجي في الديوان قائلة: “هذا الديوان يحوي بين طياته صوراً متنوعة من الحياة، بحلوها ومُرّها، قديمها وحديثها، بأسلوبه السهل الممتنع الذي يتسم بالرصانة والمتانة، مع البساطة والوضوح، يحاورُ العقول فيقنعها، ويلامسُ القلوب فيأسرُها، وكان لدراسته الأدبَ العربيَّ الأثرُ الكبير في صقلِ موهبته الشعرية، فغدا شاعراً فذاً قادراً على الكتابة في مختلف الموضوعات والأغراض الشعرية، من دون أن يشوب قصائدَه ضعفٌ أو حشو، في سبكٍ محكمٍ وبيانٍ بديع، فأحرز بهذا قصبَ السبق في حلبة الأدباء والشعراء المعاصرين، ولا أدلّ على نضجه الشعري المبكر من قصيدته “ملحمة الوجود” التي اختار الشاعر أن يستهل بها ديوانه، وقد نظمها وهو ابن ثمانية عشر ربيعاً، وهي مؤلفة من تسع عشرة رباعية، تظهر فيها النزعة التأملية والفلسفية عند الشاعر وشغفه الكبير بعلوم الفلك، فنجده يتحدث فيها عن النظرية النسبية للعالم أينشتاين والبعد الرابع للأجسام، وهو الزمن وارتباطه بخلق الكون وحياة الإنسان”.
كما تتوقف مصطفى في حديثها عن الديوان عند القصائد التي تصبّ في باب “النقد الاجتماعي”، وتضيف: “قصائد يعالج فيها الشاعر الكثير من المظاهر الاجتماعية السائدة في هذه الأيام بأسلوب نقدي ساخر يجمع الرصانة والفكاهة في آن معاً، من دون نسيان تصوير ما نعيشه من أحداثٍ جسيمة ومصائبَ أليمة، إلى جانب استعراضه في بادرة هي الأولى من نوعها بعض المواقف والأحداث التاريخية لشعراء قدامى والتعليق عليها بشكل شعري، الأمر الذي أراه نوعاً من التجديد من حيث الموضوعات الشعرية، فعلى سبيل المثال وجّه شاعرنا رسالة إلى امرئ القيس يلومه فيها على المغامرة الكبيرة التي خاضها برحلته إلى ملك الروم قائلاً:
ما الذي قد جنيتَهُ بارتحالكْ يا امرأ القيسِ في بلادِ المَهالكْ؟
يُذكر أن مازن المحملجي مدرّس أول للّغة العربية في ثانويات دمشق ومعاهدها مدة تزيد عن الأربعين عاماً، فضلاً عن تدريسه مقرّر اللغة العربية لغير المختصين في جامعة دمشق، ولُقّب بـ”شاعر نقابة المعلمين” في سبعينيات القرن الماضي، ثم بلقب “شاعر دمشق” لتخليده التراث الدمشقي العريق في أشعاره، وحمل ديوانه الأول عنوان “أيام شامية” والثاني “قيثارة الحياة”.