تحقيقاتصحيفة البعث

“فزعة” أهل الخير تخفف آلام الحرائق وتضع الجهات المعنية على المحك!

غسان فطوم

ما أحوجنا اليوم للتكافل الاجتماعي والتعاضد فيما بيننا للتغلّب على الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة، ومواجهة الكوارث التي تسبّب الأزمات والنكبات. مما يساهم في إيجاد بيئة اجتماعية سلمية تخفّف الأعباء على المتضرّرين بشكل خاص والفقراء المحتاجين بشكل عام.

مبعث استحضار هذا الكلام، هو “فزعة” أهل الخير في مختلف المناطق في ريف حمص الغربي التي تضرّرت مؤخراً بفعل الحرائق المدمرة التي أتت على مئات الهكتارات من الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، وخاصة الزيتون والتي جعلت عشرات المزارعين يخرجون بموسم صفري!.

صور مشرقة

ولأن الحاجة في وقت الأزمات تولد الدافع للتعاون والتعاضد، ظهر الأهالي كعائلة واحدة في مواجهة الخطر، فالذين لم يتضرّروا لم يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون أبناء بلداتهم يبكون ألماً على محاصيلهم التي احترقت وتحوّلت إلى رماد، وهو بلا شكّ موقف يمثّل بحق روح التعاون والتكافل فيما بينهم، رغم أن بعضهم قد يصعب عليه تأمين مصروف معيشته لآخر الشهر، لكنهم لم يتوانوا عن المساعدة.

تدافع أهالي القرى من المزارعين وغير المزارعين جسّد صورة مشرقة في إطفاء الحرائق بأدواتهم البسيطة الممكنة في محاولة لإبطاء تقدّم الحرائق ريثما تأتي الإطفائيات، التي غالباً ما تتأخر ولا تقوم بأداء واجبها كما يجب، نتيجة عدم وجود “الطرق النارية” التي كانت وما زالت مطلباً ملحاً غائباً عن اهتمام الجهات المعنية!.

كلنا لبعض

أحد أصحاب الجرارات الزراعية الذي يقوم بحراثة الأرض رفض تقاضي أجور عمله الذي كان موعوداً به في نهاية موسم قطف وعصر الزيتون عندما رأى حجم الخسائر الكارثية التي ألمّت بفلاحي ومزارعي بلدته في موقف نبيل يستحق التقدير والاحترام، ومثله كثُر  في العديد من المناطق.

“كلنا لبعض” عبارة ترجمها آخرون باستعدادهم بالتبرع بكميات من زيت فائض عن حاجتهم ليتدبر المنكوبون تأمين قسط من مونتهم من الزيت لهذا العام.

صور التكافل والتراحم بين الأهالي لم تتوقف عند هذا الحدّ، فأصحاب معاصر الزيتون أعلنوا عن تخفيضات لسعر العصر لكل من تضرّر، عدا عن النقل المجاني لما تبقّى من محصوله كنوع من المساعدة التي تخفّف المصائب.

ولم يتوانَ رؤساء الجمعيات الفلاحية عن الإسراع في حصر الأضرار من أجل المطالبة بتعويضات عادلة للفلاحين، مشيرين إلى عدم التعاون الحقيقي بهذا الخصوص، حيث تحدثوا عن مماطلات وروتين يزيد الطين بلة!.

ما سبق من مبادرات مشرقة يؤكد أن فاعلي الخير ما زالوا موجودين، ولا يمكن أن يختفوا حتى لو قدموا مساعدة بسيطة فـ”البحصة بتسند جرّة”.

حضور يشبه الغياب!

ثمّة سؤال يطرح نفسه هنا أمام نكبات المزارعين: أين الجمعيات “الخيرية” التي تتباهى بأعمالها وتسوّق لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي؟.

للأسف هناك حضور يشبه الغياب لدور بعض الجمعيات، بحجة أن مواردها أو رصيدها لا يكفي لتقديم ما يلزم، ويعلّل المشرفون عليها السبب بتقلّص التبرعات والمساعدات التي تأتيهم من الداعمين، ولكن برأي العديد من المتضرّرين والفقراء المحتاجين أن ذلك عذر غير مقبول، فلو أرادت تلك الجمعيات صاحبة “الشعارات الرنانة” المبادرة بالمساعدة ستجد من يدعمها وييسّر أمرها وأمر المحتاجين.

لا يستوي مع سيل الوعود!

في السياق ذاته، ومن خلال الحديث مع بعض الفلاحين المتضرّرين في ريف حمص الغربي سأل العديد منهم عن دور الجهات المعنية في مساعدتهم، مشيرين إلى أن الحرائق السابقة التي تعرّضت لها مناطقهم لم يتمّ التعويض لهم بحجم الخسائر ولو على مستوى تقديم غراس مجانية بديلة عن تلك التي تفحمت، وبرأيهم أن ذلك لا يستوي مع سيل الوعود التي تطلق بدعم القطاع الزراعي من خلال تأمين مستلزماته ومساعدتهم على تجاوز الظروف الصعبة!، علماً أن محافظة اللاذقية على سبيل المثال بادرت إلى حصر الأضرار من أجل تقديم العون للفلاحين الذين تضرّرت أراضيهم، معربين عن أملهم أن ينالهم جزء من هذا الدعم من قبل المعنيين في محافظة حمص.

أمر مؤسف!

ما يؤلم ونحن نستعرض بعضاً من الصور المشرقة، وجود البعض من التّجار الذين يستغلون الأزمات الناتجة عن الظروف القاهرة التي خلّفها الحريق، إنه لأمر صادم ومؤلم على حدّ تعبير المنكوبين من الحرائق، في لحظة مؤلمة كانت تقتضي منهم التعاضد والتكافل!.

وهنا استوقفنا قول لامرأة ستينية “وقت الشدائد تظهر معادن الرجال الحقيقيين”، في إشارة منها إلى المستوى الدنيء الذي وصل إليه البعض من الجشعين الذين يتاجرون بآلام الناس!.

حملات توعية

أمام تكرار مشهد الحرائق بتنا بحاجة ماسّة لحملات توعية لتفعيل قيم التكافل والتعاضد والإيثار، بهدف الحفاظ على العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الذين يعشون ظروفاً اقتصادية واجتماعية ونفسية صعبة، خلفتها الحرب، وكذلك الكوارث الطبيعية من زلازل وحرائق وغيرها، فمن يقوم بفعل الحرائق عن سابق إصرار يدلل بجريمته الشنيعة على وجود أزمة أخلاق في المجتمع، الأمر الذي يقتضي التركيز على الدور المهمّ والأساسي ‏للأسرة من خلال حضّ أبنائها على التكافل والتعاضد، والمساهمة في تشكيل ‏القيم الروحية والأخلاقية والانتماء للوطن، فبذلك تصبح قواعد المجتمع متينة لأنها قائمة على الحب والإيثار، وبهذه الجزئية يمكن أيضاً التأكيد على دور الإعلام في الإضاءة على المبادرات المجتمعية الإيجابية لتكون حافزاً في استمرار التبرع العيني والمادي، والأهم في دور الإعلام هو الدعوة لحماية المصالح العامة والخاصة، وعدم المساس بها.

خلاصة الكلام: “لو خليت خربت” ولكن قيم التعاون والتكافل والتعاضد التي يجسّدها أهل الخير وفق إمكانياتهم لا تكفي وحدها، فهي حتى تستمر تحتاج للدعم الرسمي الحقيقي، فلا يعقل ألا يتمّ التعويض على الفلاحين المتضررين، وتركهم يتألمون من لهيب الحرائق لسنوات عديدة، فبشهادة المزارعين أن ما يقدّم من دعم لا يكفي قياساً بحجم الخسائر، فهل نشهد قريباً قرارات وإجراءات سريعة تخفّف آلام المتضررين من الحرائق في كل المحافظات؟!.

هامش:

قدّرت مديرية الزراعة في محافظة حمص بشكل أوليّ المساحات المتضررة من الحرائق التي اندلعت في الريف الغربي للمحافظة مؤخراً بنحو 4741 دونماً زراعياً و20 حراجياً.

وتوزعت على مساحة 375 دونماً في حريق منطقة شين والمرانة وجبلايا و3236 دونماً في بحور وبلاط وعين الغارة، و1130 دونماً في حبنمرة ومرمريتا وعين الباردة وتنورين، وبلغ عدد أشجار الزيتون المحترقة 68750 أما التفاح فبلع 20440 شجرةً.