“النّقد” بزمن الادّعاء والتّكاذب..
وجيه حسن
(الأحْلاس:ج “حِلْس”: الشّخص المُلازِم المُقيم، الذي لا يبْرح مكانه)..
جاء في المثل: “احفظْ لسانك كما تحفظ ذهبك، فربَّ كلمةٍ سلبتْ نِعمة، وجلبتْ نِقمة”..
استناداً إليه، فإنّ حفظ ألسنتنا عن لَوْك الألفاظ المُتشنّعة، ومثيلتها التي تسلك مسالك الهزل والتّماجُن، ادّعاءً من صاحبها بالتظرّف، واستلطاف الآخرين، وكسب ودّهم، لَهِيَ أمور ليست من الأدب والظّرف “والإعراب” في شيء.. ثمّ أيرضى أحدُنا أنْ يُتّهم بأنّه امرؤٌ “دَعِيٌّ”؟ و”الدَّعِيُّ”: هو الشّخص الذي لا يُحسِن منْ أموره الحياتيّة شيئاً، إلا الثّرثرة الفارغة، والهذر الثقيل، اللذين لا طائل وراءهما بتّاً.
ثمّ هل من المنطق، وشرف الحياة، أنْ نكون من “جُلّاس المقاهي، وأحْلاسِ الأرْصفة”؟ أعني بالمقاهي: المقاهي الكلاسيكيّة، ومقاهي “الأنترنت” بآن.. ثم هل من المنطق والعقلانيّة، أنْ يسلّم أحدنا بالأخبار المُلفّقة، والترّهات السّوقيّة، التي يمضغها عقلُ فلان المُلتوِي، ولسانه الصّقيع المِعْوَجّ؟! أو تلك التي يلقيها مستهزئ أو مُبغِض أو حاقد أو غافل، أو “عِلجٌ من عُلوجِ الرّوم، أو زَاقولٌ من زَوَاقيل الجزيرة”؟ (الزّاقول: الشَّعْرُ الخارجُ منْ تحت غطاء الرّأس)، حين يقوم بدراسة أدبيّة لآثار عدد منْ الكتّاب والشّعراء، مُتناسِياً أنّ الدراسة الأدبيّة المُنصِفة، تقوم أوّلاً وأخيراً، على نقد النصوص ومصادرها.. بتمحيصٍ مسؤولٍ، وعقلٍ صادقٍ، وإمعان نظر ثاقب، عمّا يقوله هذا الكاتب أو ذاك، هذا الحاكِي أوسواه، بهذا الخصوص، ألم يقل”أبو العلاء المعرّي” يوماً:
“هلْ صَحَّ قَولٌ مِنَ الحَاكِي فَنقبلَهُ
أمْ كُلُّ ذاكَ أباطِيلٌ وأسْمَارُ”؟
“أمَّا العُقولُ فَآلَتْ أنّهُ كَذِبٌ
والعَقلُ غَرْسٌ لَهُ بِالصِّدقِ إثْمارُ”..
وقبلُ وبعدُ، فإنّه عارٌ على باحث أو دارس أو ناقد أو كاتب أو مثقّف، أنْ يتقمّم الكلمات “أي: يأخذها ويتلقّاها” منْ أفواه النّاس،منْ دون تمحيصٍ أو مُعاينَة أو غربلة، وبلا عَرْض لها على الآثار نفسها، بأمانة وَحَيَدة، وبلا استهانة، كاستهانة بعضٍ من “جُلّاسِ المقاهي، وأحْلاسِ الأرْصفة”، الذين لا همَّ لهم، إلا التشدّق بالألفاظ المُسْتظرَفَة،على برودتها وثقلها، والنظرات المُتهكّمة على غثاثتها وصقيعها، وغثاثة أصحابها، “وثقل دمهم” أيضاً.. والعاقل من الكتّاب والأدباء والنقّاد والمثقّفين، هو الذي يعلم – عنْ بصيرةٍ نافذة– أنّ الدراسة الأدبيّة جدٌ لا مزاحَ فيه،”وأنّ أمّةً تسلك طريق الهزْل والتّماجُن، ومضْغ الألفاظ السّوقيّة تظرّفاً، في دراسة آدابها، هي أمّة قد قضى الله عليها أنْ تكون هَلاكاً مُجَسَّداً، وبَلاءً مَصْبُوباً، على ماضيها وحاضرها ومستقبلها بآن”..
وحول النّقد البنّاء ونزاهته، أو عدمه، يحضرني قول “شيخ المعرّة”:
“وَهَانَ على سَمْعِي إذا القَبْرُ ضَمَّنِي
هَرِيرُ ضِباعٍ حَوْلَهُ وَكَلِيْبِ”..
(الهَرِير: صوت الكلب دونَ نباح، والكَلِيْب: جماعة الكلاب)..
لكن هل في عُصْبة الكتّاب والأدباء، مَنْ لا يعلم، أنّ أوّل شرط يجب أنْ يحوزه، ويشتمل عليه النّاقد الحصيف، هو الإحاطة بما يتكلّم به، حتى تصبح “الإحاطة قبل الحُكْم” خليقة وسَجِيّة، لا يبذل في صَقلها جُهداً، ولا يصادف في استخدامها عَنَتاً، هذا أمرٌ مفروغٌ منه، فيما أعتقد، إلا أنْ يكون “النّقد” قد تغيَّر، وتبدّلت شرائِطُه بزمن الادّعاء،والتّماجُن،والتّكاذُب، والتّطاوُل.. والنّاقد العاقل الحصيف،هو الذي يبتعد عن “التّجريح الشّخصي”، وعن “الأسلحة غير الشّريفة”، وعن إثارة الفتن والغرائز والضّغائن والاتّهامات جُزافاً، لِمَا لهذا كلّه من آثار مُدمّرة، وعواقب وخيمة..
والكاتب الحقّ الملتزم، هو الذي تنطبق عليه مقولة الناقد والكاتب المصري “محمود محمد شاكر”: (أحبّ أنْ يعلم مَنْ لم يكنْ يعلم،أنّي امرؤٌ لا تُرْهِبُه بَوارِق الوعيد، ولا تهُولُه ألفاظٌ محفوظة، تلوكُها الأقلام الذّاهلة، وتمضغُها الألسنة المُتلمِّظة… لمْ تَرُعْنِي كلمة أُوصَف بها سوى “الشِّرْك بالله”، وكلّ صفة بعد هذه، فَمصِيرُها عندي، ما قال “زيادٌ”بخطبته “البتراء”: “أنْ أجعلَها دَبْرَأذنِي، وتَحتَ قدمِي”)..
والعاقل منْ الأناسِيِّ، حين يكون مُبطِلاً بقول أو فعل، ينبغي أنْ يؤوب إلى الحقّ، خاضعَ العنق، لا تأخذه دون ذلك عزّة بالإثم، ولا يمنعه منه حياءٌ أو كِبْرٌ، أنْ يقرّ علانية بخطأ صدرَ عنه، أو زَللٍ تردّى في حفرته، عامداً أو غير عامد..
وينبغي أنْ يعلمْ كثيرٌ من المَفتونِين منْ شبابنا البريء، الظّامىء إلى المعرفة، الطّالب للعدل، “المُضلَل عنِ الحقّ”، السّاعي بوفاء ونكران ذات لإحياء أمجاد أمّته، وإنقاذها منْ براثن المعتدين بعد الذي رأى منْ آثار الاحتلال والاستعمار والإرهاب، على جباهها وأبدانها وأراضيها، أنّه قادرٌ بالتأمّل، ويقظة الضّمير، أنْ يعرف الحقّ بجهده وإخلاصه، إذا أدرك حقيقة واحدة: هي أنّ”هذا العالم الغربيّ الظالم”، عدوٌّ لَهُ شديدُ العداوة، وأنّه ماكرٌ شديدُ المَكر، وأنّه خبيرٌ خبيثٌ بصياغةِ لُحْمَة المؤامرات وسِدَاها، وارتكاب أشنع الجرائم، وإذلال الشعوب المُستضعَفة، وتهديم أركان الدّول المستقرّة، وردّها القهقرى، مُترَدّية في الحيرة والجهل والتّخبّط والألم، وما أطلقوا عليه:”الفوضى الخلّاقة” ادّعاءً كذوباً، وشوفينيّة عَمْياء، وعنصريّة حاقدة.. مستخدمين الوسائط الإعلاميّة المُضلّلة، وعصابات التّقتيل والتّدمير، والتّكبير والتّهجير، لتنفيذ أجنداتهم الخبيثة، وألاعيبهم المكشوفة، وزرع أشواك الموت والجراح، هنا، وهناك، وهنالك..
ختاماً، يحضرني هنا قول الروائي المسرحي الإيرلندي المشهور “جورج برنارد شو”:
“إذا كان الخُبثاءُ الفاسِدون هُمُ الذين يزْدهِرُون.. والذين هُمْ أكثرُ كفاءةً وتصميماً ونزاهةً يقاوِمون، فمعنى ذلك، أنّ الطّبيعة هي سيّدة المُحْتالِين بلا مُنازِع”…