الدولة لن تتخلى عن دورها الاجتماعي.. و”الخصخصة” ورقة رابحة “حالياً”
دمشق – مادلين جليس
يلقى اعتراف الحكومة ببعض نقاط الفشل في الاستثمارات العامة أصداء واسعة لدى الاقتصاديين والخبراء، فهو يعني برأيهم رغبتها الواضحة بمعالجة هذا الفشل وتحويله لمواقع وجبهات رابحة اقتصادياً واستثمارياً، وهو ما يتوضح من خلال تصريح الحكومة المباشر بأن الانسحاب من الجبهات الفاشلة في الاستثمارات العامة هو القرار الاستثماري الذي ستطبّقه في حال توفر متطلبات تحقيقه، وهو مايؤكد ودون نقاش مضيها في إعادة هيكلة القطاع العام و إعادة معالجة مشاريع مؤسسات القطاع العام المملوكة للدولة.
لا نتائج حتى الآن
وعلى الرغم من صدور القانون رقم 3 لعام 2024، الذي سمح بتغيير الشكل القانوني للشركات المملوكة للدولة وتحويلها إلى شركات مساهمة، على أن تكون الدولة مالكة لكلّ الأسهم، تؤكد وزيرة الاقتصاد السابقة الدكتورة لمياء عاصي أنه وبموجب القانون السابق لم نشهد أي نتائج ملموسة، ولم يحصل أي تغيير في واقع القطاع العام. لكن ذلك لم يكن على المستوى السوري فقط، حيث تؤكد عاصي أنه وعلى مستوى العالم فإن هناك عوامل كثيرة جعلت معظم الشركات المملوكة للدولة (القطاع العام) تعاني من انخفاض الكفاءة والفعالية، وأسفرت عن تكبّد تلك الشركات خسائر كبيرة، الأمر الذي أثر سلباً على الموازنة العامة للدولة، ولذلك وبحسب عاصي، فقد لجأت الدول في سياق الإصلاح الاقتصادي الشامل لمعالجة موضوع الشركات المملوكة للدولة الى أحد حلين: الأول، المأسسة بأن تكون الشركات المملوكة للدولة ولكن بطريقة إدارة الشركات والعمل فيها، حيث جعلها القانون تخضع لقانون الشركات وتطبق أسس الحوكمة في إدارتها، أما الحلّ الثاني فكان “الخصخصة”، حيث يتمّ نقل ملكية الدولة (العامة) إلى القطاع الخاص كلياً أو جزئياً، واتبعت الدول عدة أساليب في الخصخصة، ألا تعتمد على أداة واحدة في خصخصة مؤسّساتها وشركاتها العمومية، وأكدت عاصي أنه يوجد خمسة أنواع معروفة للخصخصة: بيع الأسهم أو ما يُعرف بالبيع المباشر، بيع الأصول، إيجار الأصول، إدارة العقود، نظام المشاريع.
خسائر ثقيلة
إن عملية الإصلاح الشاملة أصبحت ضرورة ملحّة في سورية، حيث ترى عاصي أن حجم القطاع العام كبير، كما أنه مثقل بمشكلات كثيرة، إضافة إلى تسجيل خسائر كبيرة، لذلك أصبح من الضروري أن تُجري له عملية إصلاح شاملة وفق رؤية تنموية تأخذ بعين الاعتبار أهمية كلّ شركة وأولويتها في أدنى الإصلاح ووضعها المالي والقطاع الذي تنتمي له. وتؤكد أنه يوجد معطيات كثيرة يتمّ بناء عليها، كتحديد المسار لكلّ شركة فيما إذا كانت ستخضع للنوع الأول المأسسة أم النوع الثاني، وأي نوع من الخصخصة ستلجأ له الدولة مع مراعاة الحفاظ الكامل على حقوق العمال، لكن ذلك يحتاج حتماً مشاركة القوى الفاعلة في المجتمع في اتخاذ القرار، سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
وترى عاصي أن فكرة إنشاء مجلس إصلاح اقتصادي قد تكون ضرورية وتجعل القرار أكثر صوابية وحكمة، لكنها تشترط أن يتكوّن مجلس الإصلاح من قوى سياسية وأحزاب سياسية مرخصة بجانب حزب البعث العربي الاشتراكي، وأساتذة جامعات وخبراء ومنظمات ممثلة للمجتمع مثل النقابات والغرف والاتحادات أو غيرها، إضافة إلى وزراء المالية والاقتصاد والصناعة والشؤون الاجتماعية والعمل والزراعة والتجارة الداخلية، يضاف لهم ممثل عن مصرف سورية المركزي وممثلون عن البنوك العامة والخاصة.
دور أوسع وأشمل
اقتصاديون رأوا أن ما يتمّ الترويج له من نيّة الحكومة إعادة هيكلة القطاع العام، أو حتى الاتجاه نحو الخصخصة هو إفراغ الدولة من دورها الاجتماعي، في حين كان رأي الخبير الاقتصادي الدكتور أيهم أسد مخالفاً لذلك، إذ يؤكد على عدم اقتصار الدور الاجتماعي للدولة اليوم بحصر ملكيتها لقطاع اقتصادي، فهو دور أوسع من الملكية بكثير.
كما أنه، بحسب أسد، يرتبط بنظام الحماية الاجتماعية الشامل كأنظمة الدعم المشروطة وغير المشروطة والخدمات الصحية العامة والتعليم العام والضمان الاجتماعي وصيانة أمن الدخل للمواطنين، وهذا يعني برأيه أن الدولة يمكن لها أن تمارس دوراً اجتماعياً بأقل قدر من الملكية، وأنها تستطيع تمويل نظم الحماية تلك من مصادر مالية متنوعة ومتجدّدة.
لكن بالمقابل، فإن وجود بعض مكوّنات القطاع العام الاقتصادي المستمرة بالخسارة والتراجع منذ سنوات طويلة والتي تلقى منافسة قوية من القطاع الخاص لا يعني بالضرورة عدم القدرة على التخلي عنها، بل على العكس فإن هذه الخسارة ترجح كفة الانسحاب من هذه المكونات وصوابيته، كما يقول الخبير الاقتصادي وخاصة في الألبان والألبسة والمواد الغذائية.
ويعود أسد ليؤكد أن هذا الانسحاب من بعض المكونات الخاسرة لا يلغي ضرورة استمرار حضور الدولة في بعض مكونات القطاع العام الأخرى، لما لها من أهمية استراتيجية وكونها ترتبط بالأمن الاقتصادي للمواطن كقطاع الصناعات الدوائية وقطاع الاسمنت وقطاع النسيج وقطاع الإسكان على سبيل المثال، لما لتلك القطاعات من تأثيرات اجتماعية واقتصادية على حياة المواطنين.
موازنة الأولويات
وأشار أسد إلى أن الحكومة السورية تمتلك مجموعة واسعة من خيارات التعامل مع القطاعات الاقتصادية وتحديداً الصناعية منها، وتتراوح تلك الخيارات بين حالة الإبقاء على الملكية العامة، وتحويل الشركات إلى شركات مساهمة عامة تعمل بموجب قانون الشركات وبقوانين القطاع الخاص، أو خيار التشاركية مع القطاع الخاص بموجب نموذج من نماذج عقود التشاركية التي يسمح بها القانون رقم 15 لعام 2016. أو حتى خيار تصفية تلك الشركات ونقل ملكيتها إلى جهة حكومية أخرى للاستفادة من مكانها ومبانيها، أو خيار خصخصة الإدارة فقط، بمعنى الإبقاء على ملكية الدولة لتلك الشركات وترك إدارتها للقطاع الخاص. أما الخيار الأخير فهو خيار التخلي الكامل عن تلك الشركات الخاسرة والانسحاب من قطاع عملها، لكن بالمقابل يشير أسد إلى وجوب التركيز على قطاعات عمل أكثر إنتاجية وأكثر ربحية، إن رغبت الحكومة بذلك، مشيراً إلى أن أي خيار من تلك الخيارات السابقة يجب مناقشته بدقة تامة لمعرفة ما يترتب عليه من إيجابيات وسلبيات وما يحقّقه من منافع للدولة والمواطنين على السواء.