ثقافةصحيفة البعث

“فومكا” وحكايات أخرى

نجوى صليبه

تتحدّث “فيرا تشابلينا” في مجموعتها القصصية “الدّبدوب الأبيض فومكا وحكايات أخرى” إلى الفتيات والفتيان وتقول: “منذ نعومة أظفاري وأنا أحبّ الحيوانات، وأربّي فراخ الطّيور والجراء والأرانب، وكنت أشعرُ بفرح شديد عندما تستقبلني في البيت طيور الزّاغ والعقعق، بأفواهها المفتوحة، وعندما لم تكن عصافير الدّوري الصّغيرة الرّمادية، ذات الأفواه الصّفراء تطير هاربةً عندما أمدّ لها يدي، وعندما كانت الأرانب تقفز إلى ركبتي”، مستذكرةً أنّها كانت في الرّابعة عشرة من عمرها عندما انتسبت إلى “جمعية علماء الأحياء الصّغار” في حديقة الحيوانات، ومضيفةً: “في حديقة الحيوانات تعلّمت أشياء كثيرة وممتعة.. كيف يكون شكل الأغرة والسّمامير وأبو شوك عند ولادتها، وكيف تنمو هذه الحيوانات، وكيف تتغير عاداتها، كان لديّ من شتّى صغار الوحوش، بدءاً من السّنجاب الصّغير جدّاً، وانتهاءً بصغار الأسود والنّمور والنّموس، وكم كان فرحي كبيراً، عندما عُيّنت في عام 1933 رئيسةً لجناح الوحوش الصّغيرة في حديقة الحيوانات، وفي تلك الآونة خطرت لي فكرة إقامة ساحة خاصّة في الحديقة، لا يمكن فيها تربية الوحوش ذات الأجسام القوية فحسب، بل جعلها تعيش مع بعضها في سلام ووئام، إنّ لديّ الكثير من الذّكريات الغالية والسّعيدة عن تلك الوحوش الصّغيرة التي وهبتها الكثير من الحبّ والعناية والحنان”.

وأحبّت “تشابلينا” مشاركة أصدقائها الصّغار بعض هذه الذّكريات، وتعريفهم بتلك الوحوش التي ربّتها على مدار سنوات طويلة، وأولها ذكرياتها عن “صغيرة” أخذت لبّها، مذ نُقلت إلى العمل في قسم القردة، وتخوّفها من ذلك، لأنّها تجهلها ولا تحبّها، ولا تعرف كيف تميّز بين أربعين قرداً، لها العيون ذاتها والوجوه ذاتها والأحجام ذاتها تقريباً، لكنّها -كما تذكر- وبعد تمعّن دقيق، تجد أن رأس “فوفكا” أملس، وشعر “بوبريك” يتوزّع في جهات، أمّا “الصّغيرة” فمدببة الوجه، وكثيرة وسريعة الحركة، وشرهة للحلويات والطّعام، لكنّها تخاف الاقتراب من “تشابلينا” الموظّفة الجديدة التي استطاعت بذكائها وصبرها القضاء على هذا الخوف، فصارت “الصّغيرة” تنتزع الطّعام من جيوبها، لكن على ما يبدو هذه الفرحة لم تكتمل، فشراهتها للطّعام وسطوها على طعام “غريشكا” زعيم القطيع، دفعته إلى ضربها وعضّها، حتّى تمكّنت “تشابلينا” وموظّفة أخرى “الخالة بولا” من إنقاذها.

وفي قصة أخرى، تسرد “تشابلينا” حكايتها مع “راجي” أوّل نمر بنغالي يصل إلى الحديقة، وكان ذلك في شتاء 1925 عندما بدأت هذه الحديقة تمتلئ بالوحوش، بعد سنوات من الدّمار والجوع، وتشرح اختلافه عن النّمور التي شاهدتها سابقاً بالقول: “لقد سبق لي أن سمعت مواء النّمور مرّات عديدة، لكنّني لم أسمع مثل هذا المواء الكئيب، كان يبدو أنّه لا يموء، بل يئن، ويئن، وهو ينظر إلى الأفق، بعيداً عن القفص”، إلى قولها: “وبشكلٍ جيّد تمعّنت في رأس النّمر الكبير، الذي خطّه الشّيب، وفي جسمه القويّ ذي العضلات، وكان ثمّة ندب كبير على ظهره المخطط، ويبدو من النّدب أنّ الجرح كان بليغاً، فكيف تمكّن من تحمّله، هذا ما عجزت عن تصوّره”، ثمّ تنتقل إلى تغيّر أحواله مع قدوم نمرة بنغالية رشيقة وجميلة ونشيطة ووضعها في القفص المجاور وتعارفهما، واهتمامه فيها، ومن ثمّ عودته إلى حاله الأوّل بعد مرضها، وشعوره بالفقد ووفائه لها وعدم قدرته على التّعرّف على الجارة الجديدة التي خلفتها في القفص ذاته، هذا الوفاء جعل الكاتبة تختتم قصّتها بالقول: “منذ ذلك الحين، وصل إلى الحديقة عدد كبير من النّمور، ولم يكن أيّ منها يشبه “راجي”، وعلى الرّغم من مرور سنوات عديدة، ما يزال رأسه الكبير الشّائب، وعيناه الكهرمانيتان اللتان لا تكفّان عن مراقبة النّاس، وكشرته عن أنيابه المتآكلة الصّفراء وجسمه القوي والمرن ذي النّدبة على جنبه، لا يزال كلّ ذلك حيّاً في ذاكرتي”.

أمّا “الدّب الأبيض فومكا” والذي تعنون فيه “تشابلينا” مجموعتها، التي ترجمها إلى العربية الدّكتور هاشم حمادي، والصّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب- سلسلة القصة العالمية 2024، فقصته مع مغادرة أرض وطنه لا تختلف كثيراً عن أصدقائه الآخرين، لكن تختلف طباعه وأساليبه في الحياة، إذ مُنح هذا الصّغير من جزيرة “كوتيلني” هديةً إلى الطّيّار “إيليا بافلوفيتش” الذي نقله على متن الطّائرة ومن ثمّ إلى منزله، لكنّه اتّصل لاحقاً بإدارة الحديقة لتأخذ هذا الدّب القطبي الذي يعجز عن التّكيف مع البيئة الحارّة، وكيف كلّفت هي بهذه المهمّة الصّعبة التي بدأت بهروبه من يديها وصعوده سيارة مليئة بالرّكاب، ورفضه النّزول منها، وتالياً تعاون أصحاب هذه السّيّارة وقبولهم قيادة سيارة الحديقة ومرافقتها وإتمام المهمّة بنجاح، لتواجه “تشابلينا” وزملاؤها مشكلة أخرى هي رفض “فومكا” كلّ الأطعمة وعجز الطّبيب عن معرفة مرضه، ليكون الاتّصال بالطّيار هو باب الفرج لهم وللصّغير الذي اعتاد وهو على متن الطّائرة شرب الحليب فقط، لذا بدؤوا بإدخاله إلى بقية أطعمته تدريجياً.

الجميل في هذه المجموعة هو ابتعاد الكاتبة عن أسلوب القصّة التّقليدي، وتقديم المعلومات عن هذه الحيوانات، وكذلك الرّسائل إلى القارئ اليافع بطريقة غير مباشرة، مع العلم أنّها تمرّر الكثير منها خلال القصّة الواحدة، وكأنّها تقول للقرّاء إنّه بإمكانهم إسقاط هذه الأحداث والحوادث والقصص على حيواتكم أيضاً، كصعوبة الانتقال من مكان إلى آخر والتّكيف مع البيئة الجديدة، والصّداقة والحبّ والإخلاص والعداوة والأمومة وغريزة البقاء، وتذكّرنا هنا بـ”كليلة ودمنة”، مع اختلاف أنّ الحكمة والرّسالة كانت تأتي على لسان الحيوانات، والأجمل لو أنّها أرفقت كلّ قصّة بصورة حقيقية لبطلها سواء بمفرده أم برفقة الموظّفين!.

أمّا الأمر المحزن هنا، فهو أنّنا لا نستطيع مقارنة هذه المجموعة القصصية بمثيلاتها لدينا، لأنّنا وبكلّ أسف نفتقر إلى أدب مخصّص لهذه الفئة العمرية الفاصلة بين الطّفولة والشّباب.

يُذكر أنّ الكاتبة “فيرا تشابلينا” كاتبة ومؤلفة سينمائية روسية متمرسة في مجالات الشّباب والأطفال، ومن أعمالها المؤلّفة “لقاءات مثمرة 1976″ و”المنبّه المجنّح” و”الحيوان الذي لا يطاق”، ومن أفلامها السّينمائية “مغامرات الدّيسم” و”الغريزة في سلوك الحيوانات” و”في أعماق الغابة”، وهذه سيرة تدفعنا إلى التّذكير بأنّ على الكاتب في هذا المجال الاقتراب كثيراً من اليافعين ومعرفة اهتماماتهم وأساليب تفكيرهم، لا أن تكون الكتابة مجرّد إثبات ذات وقدرة.