الفنان.. والموقف من الحياة
حسن حميد
ما كان لأحد من أفراد أسرة بابلو بيكاسو (1881 – 1973) أن يخمن بأنّ المجد ينادي طفلهم بابلو، وأنّ الشهرة الطافقة تنتظره، وأنّ عصره سيطبع بطابعه، وأنّ الفنون ستدور حوله، وفي فضائه، مثلما تدور الطيور في رحابة السماء، وإن كانت مخايل الإبداع بادية جلية عليه منذ أن استطاع الإمساك بالقلم، فقد كان الرسم لغته، ومجاله التعبيري، وكانت الكائنات البادية أمام عينيه تتحول، وعلى نحو مدهش، إلى رسوم تشير إليها وتعبر عنها، ولكنها لا تنقلها كما هي إلى أوراقه الصغيرة، إلى رقع القماش التي اعتمدها في رسومه. لقد كانت حواسه تمتلك قدرة عجيبة على تحويل الأشياء إلى كائنات أتى عليها التهديم والتحطيم، ومسّها العطب فأحال جمالها إلى قباحة لا تخلو من وحشية، لها قدرة على الجذب لتكون موضوعاً للتأمل والمساءلة!
كانت أسرة بابلو بيكاسو تحب الفنون عامة، والرسم خاصة، والكثير من أفرادها كانوا مهمومين بعالم اللوحات والألوان والتزيين، لكنهم جميعاً لم ينجحوا في أن يكونوا فنانين معروفين عدا والد بابلو واسمه (جوزيه)، فقد كان رساماً ذائع الصيت، يقصده أهل الثراء والقصور لاقتناء بعض لوحاته، كما أنه كان أحد الأساتذة المعروفين في مدرسة الفنون في مدينة برشلونة!
أحس والد بابلو أن وقفات ابنه الصغير، ابن السنوات الثلاث، طويلة أمام اللوحات التي يرسمها، وقد انتشرت في جميع أنحاء البيت، وفي الحديقة الصغيرة الملحقة بالمنزل، وأن نظراته الطويلة عميقة متأملة، ولها خصوصيتها وهي تراقب ألوان اللوحة وكتلها وشخوصها، لذلك وضع بين يديه الورق المقوى، والأقلام الملونة، وراقبه في خطوطه الأولى، فأحس بانّ طفله كائن غريب لأنه راح يرسم أشكال الحيوانات بصورة لافتة للانتباه ومقلوبة، كما راح يرسم كل ما يقع عليه بصره بصورة تدعو إلى التأمل بحق!
التحق بابلو بيكاسو بالمدرسة الابتدائية، فكان من الطلبة المميزين في جميع المواد الدراسية، وخصوصاً قدرته على التعبير والإنشاء والوصف والتصوير، ثم التحق بمدرسة الفنون الخاصة التي كان والده يدرّس فيها، وقد كانت شروط الالتحاق بها صارمة وصعبة، لكن بيكاسو تخطى الامتحان بنجاح كبير، وبزمن قياسي، فقد كان الطالب الراغب بالالتحاق بالمدرسة يخضع لامتحان مدته شهر كي ينجز خلاله الموضوع المقترح عليه، أما بيكاسو فقد أنجز الموضوع المقترح عليه (رسم إنسان بصورة عارية) خلال يوم واحد، ونال درجة عالية. بقي بابلو بيكاسو في المدرسة مدة سنة، اغترف من علومها الكثير، وبإشراف والده، ثم غادرها حاملاً شهادتها إلى مدرسة الفنون العليا في مدينة مدريد، وهناك أدهش رفاقه ومعلميه بالاشتقاقات الفنية التي عمل عليها، وتخرج في المدرسة، وهو لم يبلغ الثامنة عشر من عمره، حاملاً شهادتها أيضاً.
وغادر مدريد إلى باريس، المدينة النداهة، التي يحتشد فيها أهل الفنون والتعبير، وهناك تعرف إلى بعضهم، ثم قفل عائداً إلى برشلونة، ثم عاود السفر إلى باريس مرتين، وفي المرة الرابعة استقر فيها، في حي مونمارتر، حيث يعيش الكتاب والشعراء والفنانون من مسرحيين، ولاعبي سيرك، وممثلين، ورسامين، ونحاتين، وقد التف العديد منهم حوله لرؤية رسومه المدهشة التي راح يوقعها باسم بابلو بيكاسو متخذاً من اسم عائلة والدته نسباً له، متخلياً بذلك عن اسم عائلة والده جوزيه رويز، وذلك لاختلافه مع والده الذي لم يعجب بلوحاته، لأن والده أراد له أن يرسم على طريقة المصورين وجوهاً وأجساداً من أجل أن تزين جدران البيوت والقصور، أما بيكاسو فقد رفض هذا الأسلوب، لأنه ما أراد لنفسه أن يكون بائع لوحاته للزينة، وإنما أراد لنفسه أن يكون فناناً صاحب رؤية واتجاه وموقف في الحياة.
ولد بابلو بيكاسو في مدينة ملقة سنة 1881، لوالد اسمه جوزيه رويز، طويل عريض، قوي البنية، كان الناس يلقبونه بالرجل الانكليزي، ولوالدة اسمها ماريا بيكاسو، سمراء ذات شعر أسود، وعينين سوداوين أيضاً، وقد عرف منذ طفولته بهدوئه، ونظرته الطويلة المتأملة، وذاكرته القوية هذه الأقانيم الثلاثة هي من صنعت تجربته الفنية التي أذهلت العالم، وما زالت! ترى لو مشى بابلو بيكاسو في طريق والده، طريق المال والقصور، هل كنا عرفناه؟
Hasanhamid55@yahoo.com