خطاب القمة.. وبيانها من يوقِف المجرم؟
د. عبد اللطيف عمران
أضفت بالأمس كلمة السيد الرئيس بشار الأسد على القمة العربية والاسلامية صورة بلاغية وإبلاغية في نبرة خطابية توهّج في ثناياها نزوع عقلي ووجداني يقدم صورة قامت على الرسم بالكلمات التي نسجت بلاغة وإيجازاً وحرارة في التعبير لخطاب مؤثر وآسر اعتمد في بنيته ووظيفته ونمطه على الثنائيات الضدية الناتجة في الذهنية عن علاقة تلازمية، وجدلية، وتكاملية في آن واحد بين المعاني والأهداف، هذه الثنائيات تخرج بالنص إلى مستوى اللغة العالية وهي – تاريخياً – سمة من سمات الحياة العامة ( قوة وضعف – حرب وسلم – يأس وأمل..)، كما انطلق من صدق الإحساس بالواقع، وبضرورة البحث عن مخرج من براثن الضد، فتحققت للخطاب إستراتيجيته الإقناعية، والتفاعلية، والتلميحية أيضاً نحو قادم ينبغي الحذر معه.
في وقت تمضي فيه آلة القتل والهمجية والدمار تفتك في قطاع غزة وجنوب لبنان، إنها آلة!؟ يتحوّل معها العقل الصهيوني إلى كتلة صماء لا تعرف للإنسانية معنى ولا حضوراً. ولا تفرّق بين الحجر والشجر، ولا البشر: أطفالاً ونساء وشيوخاً، يسيّرها (عقل مريض بوهم التفوّق.. لا نكون معه كمن يتحدث عن اللص بلغة القانون، ومع المجرم بلغة الأخلاق.. نقدّم السلام فنحصد الدماء…).
في هذا السياق عبّر الرئيس الأسد بوضوح وإيجاز لافتين عن الواقع المرير ليس في قطاع غزة وجنوب لبنان فحسب، بل في الواقع العربي والإسلامي، في القانونين الدولي والإنساني، في المجتمع والعالم.
يرى الرئيس الأسد أن التوحش الإسرائيلي يعيدنا اليوم إلى البديهيات الأساسية فالدرك الذي وصلت إليه الوحشية الإسرائيلية لا يدع مجالاً للتلهّي بطرح أسئلة باتت مكرّرة وممجوجة عن تعلق الضحايا بأوهام السلام، واستعداد المنكوبين لإثبات النوايا الحسنة، وقدرة الثكالى على تقديم المبادرات التي يمكن لها أن تسترضي “الوحش” الصهيوني الذي بات يقتل لمجرّد القتل، ويدمّر في إطار سياسة الأرض المحروقة والتهجير المنهجي، أو أن توقف آلة حربية مصممة خصيصاً لتنفيذ خطط الإبادة الجماعية، وكما شدّد سيادته فنحن “لا نتعامل مع دولة بالمعنى القانوني وإنما مع كيان استعماري خارج عن القانون، ولا نتعامل مع شعب بالمعنى الحضاري وإنما مع قطعان من المستوطنين أقرب إلى الهمجية منهم إلى الإنسانية”.
حذّر الرئيس الأسد من أن العودة إلى استنساخ الماضي الراحل وأحداثه لن تكون مجدية، ولن تكون مقبولة، أخلاقياً ولا إنسانياً طالما أن مسلسل القتل لا يتوقف، داعياً للانتقال إلى مرحلة اتخاذ القرار باستخدام الأدوات التي نمتلكها مجتمعين، عرباً ومسلمين، دولاً وشعوباً، فهي أدوات موجودة وقائمة، وهي كثيرة، وربما أكثر مما هو متوقع، وليس هناك أي مبرّر لعدم اللجوء إليها في هذه اللحظات العصيبة من تاريخنا كعرب ومسلمين، خاصة وأن الصراع مع النازيين الجدد يتجسد اليوم بكامل سفوره، فالوحشية الصهيونية لا تعرف حدوداً، والحكومات الغربية الأطلسية تقف مباشرة خلف المجرمين، تساندهم وتمدهم بالدعم السياسي والمادي والمعنوي، وتبارك نزعاتهم الدموية، بل وتتقدمهم – كلما دعت الحاجة – للحيلولة دون تقديمهم إلى العدالة الدولية ومحاسبتهم، وحتى للحيلولة دون إيقاف آلة الحرب الإجرامية التي تتعمد قصف المشافي والمدارس ومراكز الإيواء والمقرّات الدولية، وطوابير المهجّرين لأنها لم تستطع النيل من صمود المقاومة وعزيمتها..
“هل نغضب مرة أخرى؟ هل ندين؟ هل نناشد المجتمع الدولي؟.. ما هي خطتنا التنفيذية؟”، هكذا عبّر الرئيس الأسد بشيء من المرارة عن الحلقة الجهنّمية التي بات العالمان العربي والإسلامي يدوران في فلكها، في مواجهة المهمة المصيرية التي يتعين علينا المبادرة للتصدي لها على الفور والمتمثلة اليوم بإنقاذ الشعبين اللبناني والفلسطيني من الموت الداهم..
محيّرة هي جمالية تلقّي الخطاب مع نظيرها أسلوب الإلقاء وفصاحته، وهي مثيرة للتفاعل مع أنماطه المتنوعة، خاصة حين تقع المفردات – الألوان – في خانات الحرب والدم والتوحّش، وهذا النوع من التلقي حريّ بالتواصل والتداول والتحفيز، وبالقدرة على تحقيق غير قليل من الوظيفية، هنا يكمن السؤال مع – لقد أسمعت لو ناديت حيّاً.. -، إذ لا يأس مع قلّة السمع، فالأمل معقود على قدرتنا، وعلى إجماعنا بالفخر والاعتبار من شهداء عظام على مستوى البشرية والتاريخ: قادة كبار – نساء وأطفال مقاومين بررة. نعم هنا الجماليّة محيّرة، ولا مشاحة في هذا، فقطاع غزة وجنوب لبنان كـ (غيرينكا) القرية التي دمّرتها الحرب الأهلية الإسبانية، وباسمها رسم بيكاسو لوحته التي خلّدت دمار الحرب فصارت لوحة (غيرينكا) ومعها أسطورة الصمود في فلسطين ولبنان، حيث تم ويتم اغتيال الحياة، معلماً أثرياً لمأساة الحرب ووحشيتها، ورمزاً مضاداً لها، وتجسيداً للحاجة إلى السلام، وسيأتي اليوم الذي يقول فيه العالم للمجرم الصهيوني نظير ما قال بيكاسو للضابط الألماني الذي قصفت طائرات بلاده (غيرينكا) حين سأله أنت فعلت هذا؟ فأجاب بيكاسو: لا، بل أنت من فعل!! فنحن إذاً بين بين، بين من يخلّد بالكلمات والألوان الصمود والشرف والإباء، وبين من يرسّخ بالنار التي وقودها الناس والحجارة الوحشية والدم والقتل.
مع خطاب الأسد أمس في القمّة، ومع بيانها الختامي، ومع تلازم الثنائيات الضدية وتكاملها في الحياة، وفي الخطاب، إذ لا يتحقق الواحد منها دون الآخر، وفي أية حال سنكون في القمة القادمة؟، ولا ضير في انتظار همّة أميني الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي.
إن العرب والمسلمين إذن أمام ثنائيات مستدامة وحاكمة لا بد معها من الخيار، وهنا المشكلة التي يجب أن تُحل.