لتُرفع الستائر ونعزف ما وراء الكواليس
غالية خوجة
ترتفع الستائر عن أحداث الحياة، وعلى كل منصة نرى شخوصاً وظلالاً وكلماتٍ تلتفّ على الصمت كما تلتفّ أعماق المحيطات على موجتها الأعمق، وتعود للتأرجح على السطح، لتتحوّل إلى ملامح لا يفهمها إلاّ الذي يشعر بها، وهكذا، يظل الشعور إحساساً جميلاً بالآخر، والأجمل أن يبادر كل منا لاستيعاب هذا الآخر في حالاته المختلفة من حزن وفرح، فيساهم بإنسانيته بما يناسب اللحظة حتى وإن كان في حالة من الحزن أو التشتت أو الألم تفوق هموم وآلام وأحزان الآخر.
في هذا العالم الذي يتفكّك إلى أجزاء غير منسجمة، صار على الإنسان، وليحافظ على إنسانيته، أن لا يتفكّك داخلياً، وأن يحاول إعادة تركيب ذاته، وصياغة فضائه، ليستطيع أن يجمع عالمه، ومحيطه الصغير من الناس، وليتفاهم مع الذي لا تفصح عنه الستائر لعله يعيد الانسجام المفقود إلى العالم، ويعزف أنشودته الراقية.
ترى، هل يستطيع الكتاب أن يقدم هذه المساعدة؟
سنجد العديد من الإجابات بين الكتب، وما تتضمّنه من أفكار مؤلفيها، ونناقشها مع أفكارنا، ووحده القارئ المتمتّع بإحساس العارف سيكتشف ما وراء الستائر، ويفكّك الرموز، مهما كانت اللغة بسيطة، أو عميقة، ويصل إلى غربلة الشوائب، لتلمع الفكرة الأكثر إضاءة وديمومة، فيغربل مفاهيمه، أيضاً، ويبتكر طرقاً جديدة يصل من خلالها إلى منصة حياتية أخرى.
وهكذا، تساعد القراءة على تحريك الأمواج الداخلية، وتمنحها تنوّعاً، وتضيف إليها حالة من الغربلة الدائمة، لأن القارئ ليس مستهلكاً فقط، بل مكتشفاً وكاتباً أيضاً، ولربما، فاجأ القراء المؤلفين بقوة ثقافتهم الواعية أثناء مناقشة أفكارهم، أو أفكار كتبهم، داحضين الكثير من المقولات الصدئة المهمّشة لدور الحضور والمتلقين، مثبتين أنهم كعنصر “مرسَل إليه”، قادر على كشف الزيف حالما تُرفع الستائر.
وللمتابع لما يحدث على المنصات الواقعية والافتراضية أن يكتشف، وببساطة، كيف تهيّئ أيديولوجيا معينة الحالة النفسية الجمعية من خلال الثقافة والفنون لا سيما الكتب، فتعمل على هذه المنصة التحضيرية مسبقاً لتمرر الكثير من الأفكار على المدى البعيد، وعندما تحين اللحظة المبتغاة، توجه ضربتها التفكيكية القاضية، ولا يحصد نتائجها إلاّ المستهدَفون الذين صدّقوا الزيف، وكلماته الرمادية، ومفاهيمه السوداء.
وهذا ما فعلته كتبٌ لا تحصى تهدف إلى مصارعة الحضارات، لا انسجامها، وإلى تفكيك إرث وتراث الشعوب، لا تناغُمها، وصولاً إلى تفكيك الأسرة الواحدة، ولربما لن تقف عند تفكيك الإنسان ذاته، وجعله كائناً “مبستراً” خالياً من الإنسانية ومشاعرها والإحساس بالآخر، أقرب ما يكون إلى كائن آليّ ساهم هو نفسه مع “التكنولوجيا” في هذا التحوّل الرقمي، فأصبح دماغه مجرد شريحة لا سلكية تتحكّم فيها أدوات الفضاء الافتراضي ومثيلاتها الواقعية.
والمؤسف، أن الغالبية تقول: ليس لديّ وقت لأسأل أو أطمئن أو أقرأ أو أتابع علاقاتي الاجتماعية مع أفراد الأسرة والأصدقاء والمعارف لكثرة انشغالاتي!
والمؤسف أكثر، أن الانشغالات تأتي لملء فراغ العمر ليس إلاّ، كما تأتي بعض الأنشطة إلى بعض المعارض لملء الفراغ بزخم فارغ، فتبحث عن النوعي كالباحث “عن إبرة في كومة قش”، وكم تشعر باليتم عندما تجد ذاك الآخر نجح في صنع “التفاهة”، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل كتب عنها منتقداً ليكمل اللعبة على المنصة، ويستحوذ على ضجيج لا ينتهي من التصفيق!
كثيرة هي المشاهد اليومية المتوالية في حياتنا، ترفع ستائرها عن ملامحها الأولى، فتعرض ما تريد أن تعرضه، وعلينا قراءة ملامحها المتماوجة وراء الكواليس، لنفصل الأفكار الحقيقية عن الأفكار الشبحية، وبوصلتنا قيمنا الإنسانية الجميلة الصافية كبطل رئيسي على كافة المنصات، أمام الستائر وخلفها، حيث لا ظلال للملامح ولا كواليس.