اليأس يسود أوروبا من جديد
عناية ناصر
أصبح الأمر متكرراً مع كلّ انتخابات أمريكية، حيث يجد الأوروبيون من جميع الخلفيات السياسية، سواء كانوا يتولون مسؤوليات سياسية أو اقتصادية أم لا، أنفسهم في حالة من الترقب القلق بشأن النتائج، ففي أعقاب الإعلان عن فوز ترامب، ساد الارتباك، مصحوباً بنوع من الشلل في مواجهة عدم اليقين بشأن الإجراءات التي يجب اتخاذها.
وللتغلب على كابوس ترامب في أوروبا والقلق الناجم عن تصريحات مثل “فوز ترامب سيؤدي إلى موجة تسونامي من الذعر”، وضع العديد من الخبراء والمحلّلين مقترحات لعلاج هذه الأزمة المتكررة من القلق واليأس منها: على أوروبا إعلان استقلالها عن وصاية الولايات المتحدة، وأن أوروبا، بتاريخها الطويل من القوة والهيمنة في الملاحة والاكتشافات والفتوحات والتنوير والثورة الصناعية، تتصرف الآن مثل سيدة عجوز متقاعدة تحتاج إلى الحماية، وغير متأكدة من كيفية الدفاع عن نفسها. ومن عجيب المفارقات أنه كلما اقتربت أوروبا من الولايات المتحدة، كلما تعمّقت أزمتها الوجودية، مما يترك القضية الأساسية دون حلّ، ويميل البعض إلى إلقاء اللوم على ترامب وكأنه وحده المتحكم بمصير أوروبا.
واستناداً إلى ذلك فقد حان الوقت لأوروبا لمعالجة هذا الوضع بإستراتيجية مستقلة، بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة من أجل السلامة وازدهار اقتصادها، لأن هذا لن يحدث. كما ويجب على أوروبا، من خلال الاتحاد الأوروبي، أن تدرس بعناية كلمات أحد أبرز الاستراتيجيين الأمريكيين، هنري كيسنجر: “إن كونك عدواً للولايات المتحدة أمر خطير، ولكن كونك صديقاً أمر قاتل”، إذ يسلّط هذا التصريح الضوء على حقيقة أن الولايات المتحدة ليست شريكاً موثوقا به، وهي حقيقة أدركتها بلدان الجنوب العالمي منذ فترة طويلة.
المصالح الأمريكية دائماً في المقام الأول
لقد أثبتت الولايات المتحدة أنها تعطي الأولوية لمصالحها الخاصة على الالتزامات الدولية، مما يثير الشك حول موثوقيتها كشريك، فعلى مرّ السنين أبرزت العديد من الانسحابات الكبيرة من المعاهدات والاتفاقيات هذا النمط: معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية (2001) في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى (2019)، وخطة العمل الشاملة المشتركة (2018) مع إيران، ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (1996)، ومعاهدة الأجواء المفتوحة (2020)، وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وبروتوكول كيوتو (2001) للحدّ من انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري العالمي، واتفاقية باريس (2015) الخاصة بالمناخ، والمحكمة الجنائية الدولية (2002) لحماية أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية.
من خلال هذه الإجراءات، قوّضت الولايات المتحدة مصداقيتها كشريك موثوق به على الساحة العالمية، مما ترك الحلفاء يشككون في استدامة التزاماتها. وعلاوة على ذلك، عملت الولايات المتحدة أيضاً على إضعاف وتسليح المؤسسات التي ساعدت في إنشائها، مما أدى إلى تفضيل الأرباح والمكاسب الأمريكية على حساب أوروبا.
سلوك إمبريالي يضر أوروبا
يتضح السلوك الإمبريالي الأمريكي في أكثر من 800 قاعدة عسكرية أمريكية في مختلف أنحاء أوروبا والعالم، وكذلك من خلال العقوبات أحادية الجانب غير القانونية، واستخدام الدولار كسلاح ضد الدول ذات السيادة ، والمدى الذي تتجاوزه قوانينها، الأمر الذي أدّى إلى إلحاق الضرر بشركات الاتحاد الأوروبي لصالح المصالح التجارية الأمريكية. في المقابل، عندما تتعرّض المصالح التجارية الأمريكية للتهديد، تتدخل الآلية القانونية الأمريكية، حيث أوصى مجلس الاستشارة الخارجية للاستخبارات منذ عام 1970 بأن “يُنظر من الآن فصاعداً إلى التجسس التجاري باعتباره وظيفة من وظائف الأمن القومي، ويتمتع بأولوية تعادل أولوية التجسس الدبلوماسي والعسكري والتكنولوجي”.
في 28 آذار عام 2000، أكد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السابق جيمس وولي في مقابلة مع صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية أن الولايات المتحدة تجمع معلومات سرية عن الشركات الأوروبية. ووفقاً لفريديريك بيروتشي، مؤلف كتاب “الفخ الأمريكي”، فإن هذا التكتيك يسمح للولايات المتحدة بإضعاف أو القضاء على منافسيها الرئيسيين.
وفي هذا الإطار، وقعت العديد من الشركات الأوروبية ضحية للحدود الإقليمية الأمريكية، ودفعت غرامات ضخمة لخزانة الولايات المتحدة.
ومن الجدير بالذكر أن الشركات الألمانية تشمل سيمنز (800 مليون دولار) ودايملر (185 مليون دولار)، والشركات الفرنسية هي توتال (395 مليون دولار)، وتكنيب (338 مليون دولار)، وألكاتيل (138 مليون دولار)، وسوسيتيه جنرال (293 مليون دولار)، وبي إن بي باريبا (8.9 مليارات دولار)، فضلاً عن ألستوم (772 مليون دولار). وتشمل الشركات الإيطالية شركة سنامبروجيتي (365 مليون دولار). كما تمّ تغريم شركة بانالبينا السويسرية بمبلغ 237 مليون دولار، وواجهت شركة بي إيه إي سيستمز البريطانية عقوبة قدرها 400 مليون دولار، على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك، نادراً ما تتمّ مقاضاة الشركات الأمريكية أو تواجه عقوبات خفيفة فقط لارتكاب “الجرائم” نفسها.
لقد كان التكفير الأمريكي لأوروبا بمثابة “الكريمة على الكعكة” فيما يتصل بسوء تصرف الولايات المتحدة تجاه أوروبا، حيث استفزت الحرب في أوكرانيا من خلال دعم الثورة الملونة في عامي 2013 و2014، وتوسع حلف شمال الأطلسي، وتجاهلت مطالب روسيا الأمنية، على الرغم من معارضة الدول الأوروبية الرئيسية.
وعلاوة على ذلك، كان لانفجار خط أنابيب نورد ستريم، المنسوب إلى الولايات المتحدة، تأثير مدمر على نزع الصناعة الأوروبية وإفقارها، وخاصة في ألمانيا.
واستناداً إلى كل ما ذكر لابدّ لأوروبا أن تأخذ مستقبلها على محمل الجد، وتمارس سيطرة أكبر على مصيرها من خلال إعادة استقلالها الاستراتيجي إلى الأجندة. كما أن فوز ترامب في الانتخابات، يجب أن يجعل أوروبا تخرج أقوى في نهاية المطاف لأنه يغرس المزيد من الخوف، ويجعلها أكثر وعياً بحدودها والتهديدات التي تواجهها، وخاصة من الولايات المتحدة.