دراساتصحيفة البعث

التصحيح حركة أم مسار إنقاذ ؟

د خلف المفتاح

لا يعتبر إحياء ذكرى الحركة التصحيحية ترفاً فكرياً أو تقليداً سنوياً بقدر ما هو فرصة لتبصر معانيه ودلالاته في ومن متغير ربما تشابهت الأحداث في بعض جوانبه، وهذا لا يعني تكرارها فلكل فعل تاريخي روح وأسباب وموجبات وأهداف، وهذا هو حال الحركة التصحيحية التي قامت قبل 54عاماً في ظل ظروف قاسية وصعبة عاشتها المنطقة العربية وسورية على وجه التحديد، وفي ظل صراع عربي صهيوني تمثل في احتلال “إسرائيل” لأراض عربية في عدوان الخامس من حزيران عام 1967 أضيفت لاحتلال فلسطين عام 1948 وهذا يستوجب في مواجهته تفكير جديد على مستوى القيادات العربية، ولاسيما في دول المواجهة سورية ومصر والأردن.

ذلك التفكير الجديد يستدعي مراجعة للعقلية السياسية في تلك البلدان، والحاجة الماسة للتنسيق بينها ولاسيما سورية ومصر المستهدفان الأساسيان من ذلك العدوان، سيما وأن أحداثاً جسيمة قد حلت بالمنطقة منها الصراع بين الحكومة الأردنية والمقاومة الفلسطينية الذي أدى إلى خروج منظمة التحرير من الأردن، ما شكل ضربة قاسية للمقاومة الفلسطينية، إضافة لوفاة الرئيس جمال عبد الناصر وما شكله ذلك من ضربة قوية للتيار القومي العربي، حيث ساد مزاج عربي سلبي على خلفية ذلك الحدثين الهامين، ما استدعى جرعة  أمل على الساحة القومية، وتعويضاً للفراغ الذي حصل لتأتي الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس المؤسس حافظ الأسد، وتنعش الأمل لدى أبناء الأمة بملء الفراغ الذي حدث في الساحة القومية والمقاومة والمتمثل بتصحيح العلاقة بين سورية ومصر قطبا الرحا في الساحة القومية، حيث تسارعت الخطوات الوحدوية بين سورية ومصر وليبيا، فأعلن عن قيام اتحاد الجمهوريات العربية بعد شهر من انتخاب الرئيس حافظ الأسد رئيساً للجمهورية  العربية السورية في آذار 1971 عبر إعلان طرابلس في ليبيا ويتوج بقيادة عسكرية موحدة للجيشين السوري والمصري أثمرت نتائجها في حرب تشرين التحريرية عام 1973 .

إن الإضاءة على هذه النقطة هدفه تبيان أن أحد أهم أسباب قيام الحركة التصحيحية هو تصحيح العلاقة المتوترة والسلبية بين سورية ومصر على خلفية المناكفات السياسية بين البعث وعبد الناصر التي أعقبت فشل تجربة الوحدة السورية المصرية، وانعكاساتها السلبية على البلدين، واستغلال ذلك من قبل العدو الصهيوني وقيامه بعدوان حزيران 1967.

وإلى جانب تصحيح العلاقة بين سورية ومصر إلى مستوى التنسيق، كان تصحيح العلاقة مع الدول العربية، ولاسيما المملكة العربية السعودية، وصولاً  للتضامن العربي الذي استطاع الرئيس الأسد النجاح في تحقيقه ما أثمر مشاركة أغلب الدول العربية  في حرب تشرين من المغرب غرباً إلى العراق شرقاً ما أثبت قومية الصراع بين العرب والكيان الصهيوني.

والى جانب تصحيح العلاقة بين سورية والدول العربية، شكلت الحركة التصحيحية تصحيحاً للعلاقة بين حزب البعث وجماهيره، والانفتاح على القوى الوطنية والتقدمية في سورية لتتشكل وحدة وطنية يصعب اختراقها من أية قوى خارجية في ظل الاستعداد لحرب تشرين عبر تمتين وتعزيز الجبهة الداخلية لتتعانق وحدة وطنية على المستوى الوطني، وتضامن عربي على المستوى القومي.

أما على صعيد قيادة الحزب، فكان الصراع قائماً بين أجنحة وتيارات حزبية أضعفت الحزب والجماهير، وكادت تلك الصراعات، لو لم تحسم لصالح الحزب وجماهيره، أن تسقط ثورة الثامن من آذار لصالح القوى المعادية، كما حصل في العراق في الردة التشرينية عام 1963.

من هنا يمكننا وصف ما جرى في السادس عشر من تشرين الثاني عام 1970 بأنه ليس حركة تصحيحية فحسب، وإنما حركة إنقاذ للبعث من السقوط، ونهاية حكم البعث بأيدي قيادة البعث ذاتها، ما يعني أن البعث امتلك من القيادات المناضلة ما مكّنه من تصحيح مساره وإنقاذ ثورته وهو الرئيس المؤسس حافظ الأسد .

إن الحديث عن انجازات التصحيح لم يعد أمراً فيه الجديد، ولكن الانجازات التي يمكننا الحديث عنها فهي ما تتم الإشارة إليه في كل المناسبات، ولكن الذي لابد من الإشارة إليه هو أنه لولا حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي التي عاشتها سورية منذ ذلك التاريخ ما كان يمكن لها أن تتحقق، فالذي وسم الحياة السياسية في سورية منذ ما بعد الاستقلال هو الانقلابات العسكرية شأنها شأن باقي الأقطار العربية إلى درجة أنها تحولت إلى ما يشبه الفلكلور السياسي، ما أن ينام الناس على انقلاب حتى يستيقظوا على آخر، ما حال دون الاستقرار السياسي الذي يؤدي إلى الاستقرار والأمن الاجتماعي والأهلي، ويسارع في خطا التنمية بأوجهها المختلفة ويخرج البلدان العربية من حالة الفقر والتخلف في مقاييس التنمية البشرية .

لقد نقلت الحركة التصحيحية سورية من حالة الصراع الحزبي والسياسي إلى حالة التفاعل والتناغم المجتمعي والتعددية السياسية والاقتصادية، والانفتاح نحو المجتمع الأهلي والاستثمار الأمثل للرأسمال الوطني، والعودة للبعث لجذوره ومنابعه الأساسية بعد محاولات الدفع به نحو “المركسة” عبر اليسار الطفولي الذي لم يأخذ في الاعتبار خصوصية المجتمعات العربية، وخطأ استنساخ تجارب الشعوب الأخرى وإسقاطها على مجتمعاتنا .

لقد امتلك حزب  البعث عبر تجربته التاريخية الفذة بما فيها من انجازات وانكسارات القدرة على تصحيح مساره، وتطوير وتحديث نظريته وأفكاره، ومشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبنيته التنظيمية، وهو ما يفسر ما شهده منذ فترة قريبة من إعادة تعريف للدور الوظيفي والسياسي والجماهيري  للحزب في ظل دستور جديد يضع في الاعتبار أن سورية دولة انتقلت منذ عام 1971 من الشرعية الثورية، أي شرعية الإنجاز إلى الشرعية الدستورية، أي دولة المؤسسات، وانتقال آخر بعد إقرار دستور 2012 وتحول الحزب من حزب قائد للمجتمع والدولة إلى حزب حاكم بحكم الأغلبية التي يمتلكها في البرلمان السوري.

ولعل ما يشهده الحزب راهناً من حراك تنظيمي يدخل في إطار استمرار التكيف مع مقتضيات الدستور النافذ وقانون الأحزاب، ما يوسع دائرة الأمل في تحريك الحوض السياسي، والانفتاح أكثر على القوى السياسية وتمثيلاتها الحزبية وانخراطها الفعال في كافة مظاهر الحياة الحزبية والسياسية، عبر تعميق الممارسة الديمقراطية والشراكة والمسؤولية في قيادة البلاد، وعبر المساهمة الفاعلة في طرح الأفكار عبر بوابات الحكومة ومنابر الأحزاب السياسية. إضافة إلى أن تنتهج الحكومة والحزب سياسات رشيدة وواقعية وتنعتق من الإيديولوجية الصلبة في بعض مفاصل العمل الحكومي، والدور الوظيفي للدولة الذي يحتاج إلى إعادة نظر، والتفكير خارج الصندوق، كما أشار السيد الرئيس بشار الأسد في كلمته أمام مجلس الشعب، وهذا يعتبر توجيهاً للحكومة ومؤسسات الدولة، من وجهة نظرنا، ما يعني أن كرة العمل السياسي والحزبي والسلطوي أصبحت في ملاعب تلك المؤسسات، وهذا يحتاج إلى جرأة في القرارات، وتحمل  للمسؤوليات  وليس ترحيلاً لها وتهرباً منها، مع ثقتنا بأننا أمام حكومة تدرك وتعي واجباتها، قادرة  على تحمل المسؤولية وتبعات ما تتخذه من قرارات من منطلق المصلحة الوطنية، وتمثلها لأفكار وتوجيهات السيد الرئيس بشار الأسد.