ثقافةصحيفة البعث

الكاتب.. من هو؟ وما هي مسؤولياته؟

حسن يوسف فخّور

يقول الأديب الروسي تشيخوف “اكتبوا بأكبر قدر ممكن، لا يهم أن يكون كل شيء جيداً، فسوف يتحسن الإنتاج فيما بعد”، ويؤكّد الروائي السوري حنا مينه أنّ الكتابة “ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريقٍ إلى التعاسة الكاملة”، فمن هو الكاتب؟ وما هو محله من إعراب جملة البناء الحضاري للمجتمعات؟.

الأديب والكاتب الصحفي حسن م. يوسف توجه بالسؤال للذكاء الاصطناعي لاعتقاده بأن هذا المفهوم من الصعب حصره بأسطرٍ قليلة، والذي لخصهم له بصفات هي الإبداع والمهارات اللغوية والبحث والاستقصاء والمرونة والصبر والتنظيم؛ الأمر الذي يؤهل الكاتب من وجهة نظره لتحويل أفكاره إلى كلماتٍ تؤثر في القرّاء وتغنيهم، وحول أحقية الكاتب بحمل هذا اللقب يؤمن بأنّ “من حق أي إنسان القول عن نفسه ما يريد، فنحن جميعاً نقول عن أنفسنا أشياءً ما أنزل الله بها من سلطان”، أما إصدار المنشورات فشرطٌ أساس لمن يريد الانتساب إلى اتحاد الكتّاب، فمؤلف “العريف غضبان” لم يكن عضواً في اتحاد الكتاب العرب حتى عام 2015، إذ فاجأه الأديب الراحل الدكتور نضال الصالح بمنحه عضوية الشرف، مؤكداً أنّ “نتاج الكاتب هو الذي يسقط عنه الحق ويعطيه إياه في إقامة نشاطاته وفعالياته الثقافية”، ويؤمن أستاذ دبلوم العلوم السينمائية بأنّ “مسؤوليات الكاتب تجاه مجتمعه، أن يعبّر عن قناعاته الخاصة بنزاهةٍ وعمقٍ وجمال، بحيث يكشف لقرّائه القوانين الخبيئة التي تتحكم بواقعهم، ما يساعدهم على تغييرها”.

وعن تأثير تطور وسائل الاتصال على النتاج الأدبي، لا يشك أستاذ المعهد العالي للفنون المسرحية في أنّ “الثورة العلمية التكنولوجية التي تعيشها البشرية حالياً تشكل فرصةً كبرى للنوع البشري برمته، لكننا نحن البشر مشهورون بهدر الفرص، فبدلاً من استخدم الطاقة النووية لإنارة العالم بالكهرباء حولنا هذه الفرصة إلى خطر ماحق يهدد مستقبل النوع البشري برمته، وهناك قلة من الكتاب يستفيدون من ثورة تكنولوجيا المعلومات لتطوير نصوصهم الأدبية وخدمة الحق والخير والجمال، لكنّ كثيرين من المتطفلين على الكتابة يستخدمون الذكاء الاصطناعي ووسائل الاتصال لإغراق العالم بتفاهات منسوخة لا روح لها، لكن الزمن بوصفه الناقد الأكثر أهمية على الإطلاق سيكشف الغث من السمين، والذهب الحقيقي عن المعادن المزيفة التي تلمع أكثر من الذهب”.

ويعتقد الأديب سعيد البرغوثي أنّ “الكاتب هو من يتخذ الكتابة مهنةً دائمةً له، سواء أكان مؤلف كتبٍ أم كاتبٌ في صحيفةٍ دورية، والكاتب يأخذ صفته عبر موضوع وشكل ممارسة الكتابة، حينها يحق له الاعتراف فيه كاتباً حسب تخصصه الأدبي أو العلمي، شرط إيمانه بأنّ الكلمة مسؤولية سواء أكانت منطوقةً أم مكتوبة أمام القراء ولا يترتب عليها حساب أو عقاب، لكن هنا يأتي النقد الذي لا بد للكاتب من الوقوف أمامه، والنقد بحدّ ذاته شكلٌ من أشكال الكتابة التي تجسّر العلاقة بين القارئ والكاتب، ومن الطبيعي أن يكتب الكاتب قناعاته التي قد تتفق أو تختلف مع قناعات الآخرين”.

ولا ينفي مؤسس “دار كنعان للنشر” مسؤولية دُور النشر في سوية الإنتاج الأدبي، فهي التي توثّق معظم النتاج الإبداعي، وكما أنّ “الكتّاب متنوعون، كذلك دور النشر، فالفارق بين دارٍ وأخرى يعود بشكلٍ أساس لاهتماماتها بنوعية ما تنشر، إذ هناك دُور نشرٍ تهتم بالكم، والناحية التجارية هي الأكثر أهمية بالنسبة إليها، وتنشر معظم ما يصلها وتعتقد بأنه سيحقق مبيعاتٍ جيدةٍ بغض النظر عن نوعه وقيمته، ودُورٌ تحاول الاختصاص فيما تنشر، وأخرى تنوّع في مواضيع ما تنشر، وهناك دُورٌ تهتم فقط بنشر الكتاب الذي تعتقد برواجه، واتُفِق على تسميته كتابٌ ضارب”، والأكثر أهمية من وجهة نظره “الدار التي تحترم عقل القارئ، وتقدم له الكتاب الذي يساعده على طرح أسئلته بما يتعلق بشؤون حياته، التي تأثرت بوسائل التواصل على حساب الكتاب بعد أن طاله الغلاء؛ ما أثّر على عملية النشر؛ إذ أصبح الناس يهتمون باقتناء الأشياء الأساسية في حياتهم اليومية”.

يدعو رئيس تحرير مجلة “أسامة” الشاعر قحطان بيرقدار إلى التمييز أولاً بين الكاتب والأديب، فـ”الكاتب مفهوم عامٌ، يشمل صنوفاً عديدةً، ليست بالضرورة أدبيةً، ربما تكون كتابةً صحفيةً أو بحثيةً، بينما الكتابة الأدبية تنطلق من منحى جماليٍ إبداعي، قد تكون بعيدةً عن الكاتب الذي ربما يكتب في مجال العلم والفلسفة والفكر، لكن الكتابة عموماً لا تبتعد عن الإبداع، فهي مرادفةٌ له؛ لذا يجب أن يكون الكاتب جميلاً، مهما كان مجاله، وأن يكون بالدرجة الأولى على ثقافةٍ واسعةٍ ومعرفةٍ عميقةٍ في كل صنوف المعرفة، متخصصاً بجانبٍ معين، ويستطيع أن يكتب خلاصة الثقافة التي تلقاها، فهو يعيش تجربةً ثقافيةً معينةً يعبّر عنها بأسلوبه الخاص، شرط أن تكون مقنعةً أو مقبولةً بالنسبة إلى الآخر، أما إصدار المنشورات فليس أمراً أساساً، فقد لا تسمح ظروف الكاتب بذلك، لكن وجود إصداراتٍ مطبوعةٍ باسمه تمنحه مصداقيةً وحضوراً أكبر، ملتزماً بقضايا مجتمعه وهمومه التي يعكسها في نتاجه، فلا يستطيع العيش في برجٍ عاجي، ويقول أنّه كاتبٌ، ولا مشكلة أن يكتب قناعاته، شرط أن يكون متوازناً؛ لكي يكون أكثرَ قرباً من الجمهور”.

ويؤكّد مدير منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب أنّ “الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه سورية منذ بداية الحرب له انعكاسٌ كبيرٌ على القطاع الثقافي بشكل عام؛ خاصةً دور النشر وآلية عملها؛ إذ ارتفعت تكلفة مستلزمات طباعة الكتب، وصاحب دار النشر تاجرٌ بالنهاية عليه دراسة عائدات طباعة الكتب؛ لذا لا نستطيع اليوم أن نعول على دَور دُور النشر ولا قطّاع الثقافة؛ لأن صناعة الثقافة أمرٌ مكلفٌ، ونحن لا نملك التمويل الكافي بسبب تأثّر الثقافة بالأزمة الاقتصادية”، مشيراً إلى تأثير وسائل التواصل الكبير اليوم على الكتاب المطبوع والإلكتروني، “فالثقافة السائدة اليوم هي التلقي البصري السمعي، لكن الثقافة البصرية وحدها لا تكفي، عدا عن أنّ الناس مشغولةٌ بما فرضه علينا زمن التفاهة وسيطرتها على وسائل التواصل، فأصبحت مكرّسة بشكل أو بآخر، ومن ناحيةٍ أخرى أصبح متاحٌ للجميع الوصول إلى جميع أنواع المعرفة والثقافة، فمن يمتلك شغف المعرفة سيحصل على الكثير من الفائدة، وهذا سينعكس على نتاج الأديب الذي يعتمد على الحصيلة المعرفية التي يمتلكها، ولكي يكون الأديب مؤثّراً وصاحب بصمةٍ عليه أن يكون مثقفاً أولاً وأخيراً، وإلا ستكون كتاباته بلا قيمة، لكن في ظل تطور وسائل الاتصال اختلطت الأمور والمعايير، وهذا انعكس سلباً على الثقافة عموماً، وهنا يأتي دور الأديب في نشر الوعي لحماية الناس من الغزو الثقافي الغربي المقنع بوشاح الحضارة من خلال نتاجه الأدبي والمعرفي”.

وبالانتقال إلى الكتّاب الشباب تصف القاصة علا آل جبر الكاتب بأنه الذي “يقدم رؤيةً فلسفيةً مستقبلية، يرى ما لا يراه الناس، ويقدم الواقعية بغيريةٍ تامة، لكن صفات الكاتب تلك لا تكفي وحدها؛ إذ لا يمكن أن تُطلق على شخصٍ مصطلح كاتب ـ مهنياً ـ من دون أن يكون له إصدارٌ واحدٌ على الأقل، هذا الإصدار هو بمنزلة مشروع تخرجٍ لينال الشاهدة بأنه كاتب”.

وعن دور الكتّاب ومسؤوليتهم تعتقد جبر بأنّ “الكاتب أصلاً لا يكتب قناعاته الشخصية، للأسف معظم الكتّاب العرب يظنون أنّ الكتابة هي فرضٌ لرؤيتي الشخصية، لكنها غير ذلك تماماً، الكاتب يقدم رؤى مختلفة، ولا يجوز للنص المكتوب الارتباط برؤية شخصٍ معين، إنما يرتبط بفلسفةٍ معينة، كتابات “دان براون” ـ على سبيل المثال ـ تطرح أسئلةً سياسيةً وفلسفيةً ووجوديةً مهمةً جداً من دون أن يقدم لها إجابات، يترك الإجابة للقارئ، وهذه فنيةٌ عالية، أما مسؤولية الكاتب، فالمسؤولية الأولى هي الفن، أن يقدم متعة الفن، ثم الرؤى الفلسفية أو السياسية”.

ولا ترى جبر شرط الانتساب إلى اتحاد الكتّاب العرب ضرورياً، إذ لم تجد “كاتباً حقيقياً يتمتع بأدبٍ متميزٍ ينتسب إلى لاتحاد، ربما العمل المؤسساتي لا يتناسب مع فكرة الإبداع، غير أنّ للاتحاد شروطاً مزعجةً في النشر، وتالياً يصعب على المبدع الانتساب إليهم، هذه الشروط ليس لها أي قيمة في ظل التطور التكنولوجي الذي نشهده، اليوم نحصل على كل ما نريد ويمكنني أن أنشر إلكترونياً ما أريد، والخاسر هو الاتحاد”.

وتلوم أستاذة النقد الحديث والمعاصر البيرقراطية الثقافية، “فالنتاج الأدبي في تدهور حقيقةً في سورية بسبب انتشار ما يُعرف بـ”أدب الفيسبوك” و”نقاد الفيسبوك”، هذا أدب كارثي، وبالمقابل تزمّت أصحاب القرار الثقافي على أرض الواقع، فالأديب الحقيقي غير قادرٍ على النشر الحر في مؤسساتنا الثقافية، ولا يُمكن له التساوي مع أدباء الـ”فيسبوك”، فينأى بنفسه عن هذا المسار إلى أن تُتاح له الفرصة خارج سورية، فالقائمين على الثقافة في البلد معظمهم من غير المثقفين وهؤلاء يعطون المنابر لغير المثقفين ويقدمونهم على أنهم مثقفين، الوضع كارثي، هناك حالةٌ من الإفراغ الثقافي لا يمكن معه إلا أن نستشرف مستقبلا أسود”.

يعترض الأديب سامر منصور عضو اتحاد الكتّاب العرب على جدلية دور الكاتب في المجتمع باعتباره جزءاً من البنية الفوقيّة في شتى المجتمعات فـ”الكاتب باحثاً كان أم مفكراً أم أديباً مضطهدٌ على صعيد التعويضات والأجور؛ إذ تم زيادة أجور الجميع حتى التعرفة التي يتقاضاها سائق الحافلة من خمس ليراتٍ إلى ألف ليرةٍ، بينما الكاتب يتقاضى حتى يومنا هذا ثلاثة آلافٍ وستمائة ليرةٍ تعويضاً عن محاضرةٍ أو أمسيةٍ أدبيةٍ في مركز ثقافي أي ثمن قطعة بسكويت لطفلٍ صغير، وهذا ليس أجراً زهيداً أو مجحفاً، بل التعبير الدقيق هو أجرٌ مُذل، حتى من يؤلف كتاباً، وتُقر له وزارة الثقافة بأهميته وتتبناه لتنشره على نفقتها نظراً لأهميته، يتقاضى ما يعادل ثلاثة رواتبٍ لموظفٍ أمّي بعقدٍ مؤقتٍ مع أي جهة حكومية، مع العلم أن تأليف الكتاب أيّاً كان نوعه يحتاج عاماً في متوسط الأحوال وهو تجسيد ثمرةِ مُتراكم معرفي ودراسةٍ استمرت سنوات”.

وفي محاولة للوصول إلى إجابةٍ تقترب من حل جدلية الكاتب ومسؤولياته كان لا بدّ من التوجه إلى رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية الدكتور محمد الحوراني الذي فرّق بين كلٍ من الكاتب والمتعلم والمثقف إذ “ليس كل متعلمٍ أو كاتبٍ مثقفاً، لا بل إن هناك عدداً من الكتّاب لا علاقة لهم بالكتابة بمعناها المعرفي والثقافي العميق، ولا بما يعانيه مجتمعهم، وهو ما ينفي ـ بالضرورة ـ عنهم صفة الكاتب المثقف وإن كانوا  كتبة، فالكاتب هو الحامل للمنظومة القيمية والأخلاقية والملتصق بهموم أمته، بعيداً عن النرجسية والتعالي واجتراح الخطابات المعقدة والسلوكيات المريضة التي من شأنها أن تبعده عن محيطه وشعبه حتى وإن صدرت له عشرات المطبوعات، من دون أن يكون لفعله ـ قولاً أو عملاً ـ أي حضورٍ في محيطه وبين أبناء بلده، وانطلاقاً منه يمكننا القول إنّ الكاتب والمثقف المتماهي مع أمته والمنحاز لعدالة قضيتها والثابت على القيم والمبادئ الأخلاقية هو الكاتب الحقيقي حتى وإن لم يُصدِر سوى مقالٍ أو كتابٍ أو بعض النصوص، وتتعزز مكانته بمقدار ما يحققه من تغيير في مجتمعه، وما ينجح في تأصيله من ثوابت يحاول الآخر النيل منها وتشويهها؛ رغبةً منه في تعويم ثقافة التفاهة والترويج لها، أو نزوعاً حول تكريس المثقف النرجسي المريضي، وإبعاد الناس عن جوهر الثقافة وحقيقتها من خلال سلوكياتٍ مريضةٍ لا تمت إلى الثقافة بصلة”.

وعن مسؤولية دور النشر في سوية النتاج الثقافي وضرورة ضبط وسائل الاتصال يؤمن الحوراني بأنّه من “واجب المؤسسات الثقافية العمل على ترويج الثقافة الحقيقية بعيداً عن الاستسهال وثقافة التفاهة والتحلل من الأخلاق والقيم النبيلة التي أُسِست عليها ثقافتنا ومعظم الثقافات الإنسانية الراقية، ولا تقتصر فعاليات الاتحاد على الأعضاء فيه، بل إن عدداً لا بأس فيه من فعاليات الاتحاد وفروعه تتم بمشاركة بعض الأدباء والمهتمين من غير الأعضاء في اتحاد الكتّاب، لكن يجب أن اختيار المشاركين بعناية، وهذا لا يعني عدم وجود خلل في بعض الفعاليات التي تُقام هنا وهناك، أو بعض الكتب التي تُطبع في بعض دُور النشر الخاصة أو في بعض المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، ما يعني بشكلٍ أو بآخرٍ ضعفاً في أداء هذه المؤسسات؛ إما بسبب العلاقة الشخصية أحياناً أو المال والربح أو بسبب خلل في بعض لجان القراءة؛ لذا لا بد من العمل على تحصين النشر والطباعة والتشدد فيه، وخاصة بعد أن أصبحت ثقافة التفاهة طاغيةً في بعض الدول والمواقع والمؤسسات؛ لذا لابد من وضع قيودٍ وقوانينَ صارمةٍ على وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي والإعلام والطباعة منعاً للمزيد من الانحدار الثقافي والإبداعي، ولابد أيضاً للناقد والمبدع الحقيقي من وضع يده على ضمير ثقافته عندما يكتب عن أي عملٍ جديدٍ لكاتبةٍ أو كاتبٍ لا همّ له سوى تحقيق الشهرة ولو على جثة الثقافة والإبداع والقيم”.