الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الورّاق.. أبو زينة!

حسن حميد 

قيّضت لي الأيام أن أرتطم بأصدقاء صفتهم الأولى هي الوفاء، وسلوكهم الأوفى هو اللطف، وروحهم الجوالة في صدورهم هي المحبة؛ هؤلاء، على قلتهم، أغنوا حياتي بالكثير من االمغانم التي أعتز بها لأنها هي من صلبت عودي، وراكمت معرفتي، ورفعتني كي لا أسقط في دروب الحياة الطويلة الوعرة الشائكة، من هؤلاء الأصدقاء، الوراق الراحل (أبو زينة) الذي عاش حياته كلها للثقافة والمعرفة، بائعاً للكتب القديمة فوق الأرصفة، وقرب الأشجار، ولم يشك من حر الصيف ولا من برد الشتاء، كان مكتفياً بأنيسته الوحيدة الأثيرة: الكتب. فعقد من خلالها صداقات عزيزة على قلبه مع الآخرين، وشكر الله تعالى لأنه ومن خلال علاقته بالكتب، كان فاعلاً وحاضراً وبادياً في الحياة الثقافية في سورية.

تعرفت إليه وأنا طالب في الجامعة، وليس في جيوبي كلها سوى القليل من المال، وكنت متطلباً، وكان هادئاً، صبوراً، يراني وأنا أقلّب الكتب بيدين خشنتين، فيجرض بريقه. نعم كانت الكتب بالنسبة إليه طيوراً، لها أجنحة أكثر وأطول وأقوى من أجنحة الطيور، أبو زينة، صبر عليّ، لأنني ما كنت صاحب مال، وأرشدني إلى قراءة الكتب النفيسة، وكنت غراً، وهداني إلى قراءة الكتب التي يسميها بـ (الأمهات المرضعات)، قال لي: أي قراءة بعيدة عن الفلسفة، والأساطير والميثولوجيا، أبعدها عن يدك، اقرأ فلسفة الإغريق، خذ ما فيها من كتب المترجمين العرب الكبار، مثل ثروت عكاشة، ادفن رأسك في الأساطير كي تعرف عوالم الدنيا والآخرة، كي تعرف أسرار السماء، وأسرار العالم السفلي، وعالم الموت، اقرأ عن عالمي الليل والنهار، ولماذا أولهما سراني وغامض ومخيف، وله وهرة وصولة، ولماذا له صلة بالسرّاق واللصوص والخائفين والأشباح، والكلام الثقيل، وارتجافات القلب، ولماذا ثانيهما، النهار، مكشوف، منار، واضحة حدوده، بادية أفعال الناس فيه، اهتم قدر طاقتك بعالم الليل، عالم الأسرار ودعك من عالم النهار، دع النهار لغيرك، كي يكتب كتابات نهارية مكشوفة، كتابات خطية، لا أبعاد لها، ولا أعماق، ولا أسرار فيها، ولا (رشة) غموض! اجعل الليل زماناً لك، واطلبه بالأسئلة والصفاء، والعقل الذي ارتاح من عذاب الطعام والشراب والركض في دروب الدنيا نهاراً من أجل الآني والمؤقت والظرفي.

الكتابة الحقة إن أردتها مقصداً، هي الكتابة الملأى بطعوم الفلسفة، الحاضنة للأسرار، النائية والقصية والصعبة والوعرة، التي لا تنالها سوى الأيدي القوية المالحة. قال لي: لا تقرأ لأحد تعرفه يكتب في هذه الأيام، سواء أكان قربك، أو في الفضاءات البعيدة عنك، دع قراءة من تعرف إلى وقت آخر، اقرأ للراحلين، اقرأ كتب الفلسفة، واقرأ الترجمات، إياك أن تحيد ثقافة دنيا أخرى، أياً كانت جغرافيتها، فالفن موجود في كل مكان، لكنه يحتاج إلى عين خبيرة تراه، كنوز الفن اليوم هي في إفريقيا التي ما زالت مجهولة، وموجودة في آسيا، وفي جزر البحار، وإن كنت لا تهتم بكلامي هذا، أعني إن كنت لا تصدقه، خذ جغرافية الإغريق المشطورة إلى شطرين: بر وبحر، انظر إليها، ودقق النظر جيداً، فهي جغرافية لن تعلو في نظرك كثيراً، لكن حين تعرف ما الذي فعلته هذه الجغرافية الصغيرة في تاريخ البشر، وعقول البشر، وسلوكيات البشر، ستقول مثلما أقول أنا: قد لا تنتج الجغرافيات الكبيرة معارف كبيرة، ومن هذه المعارف الآداب والفنون.

كان الوراق (أبو زينة) مدرسة للثقافة والمعرفة، فهو يقرأ عشر ساعات في النهار تقريباً، وكان زاهداً بمعرفته يقدمها لكل من يستأنس فيه ضوءاً قد يشع يومياً، وكان كريماً وسمحاً، وهادئاً، ولا يعرف الغضب، كتبه كانت آخر عطية من عطايا الملوك، وكان يراها تسرق ولا يقول شيئاً، كان يدقق في صورة السارق، ليحفظ رسمه، وحين يألفه، وقد راح يتردد عليه، يؤاخيه، وحين يغيب، يسأل عنه، وحين يعود يمده بالكتب إن ارتجى منه مرتجى، أخبرني أن أديباً كان يأتي إليه، كمن يأتي إلى (السحاري في البرية) يأخذ في كل مرة كتاباً، ويراه فلا ينهره، ولا يقول له ماذا فعلت، ولا يطلب منه أن يدفع الثمن لأنه سأل عنه، فعرف أنه عديم المال، قليل الرغد، لكنه عاشق للقراءة، ولأنه كان يعرف أن هذا الأديب سيعيد الكتاب معه حين يعود بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، ويضحك (أبو زينة) يقول: هذا أديب كرّمني حين حوّل كتبي المنثورة على الرصيف إلى مركز ثقافي يعير الكتب مجاناً ليوم أو أسبوع.

بلى، أعترف أنّ أبو زينة الوراق كان أحد أساتذتي، وأحد رجال المعرفة، وأحد عشّاق الكتب الذين صادفتهم في غير مدينة عربية، وغير بلد عربي، لقد رأيت من يماثلونه في الصورة والعشق والأهمية، في أزبكية القاهرة، وفي شارع المتنبي في بغداد.

أبو زينة الورّاق، وأمثاله، رجال عظام، لم يكتبوا، لكنهم شقّوا الطرق الوعرة وعبّدوها للآخرين كي يكتبوا، وحين قرأوا الكتب قرأوها من أجل هداية الآخرين إلى أجمل ما فيها من جمال وأسرار وغنى.

سامحني، عم أبو زينة، أتذكرك اليوم لأشكرك.. فأنت أحد المعلمين الكبار الذين هدوني إلى الكتب ذات الكبرياء، والعزة، والجمال الذي لا ينفد.

Hasanhamid55@yahoo.com