“يدُها المهدّبةُ من كثرة الضوء” سفرٌ في أعماق النفس العاشقة
أمينة عباس
لم يكن اختيار د. طارق العريفي لقصيدة “يدُها المهدّبةُ من كثرة الضوء” للشاعر أوس أسعد لتكون موضوع قراءته التحليلية البنيوية لها والتي قدّمها، مؤخراً، بالمركز الثقافي العربي في المزة لأسباب موضوعية، إنما للجمالية العالية التي اتصفت بها الصور الشعرية والتي أبدع الشاعر في تصويرها ونقلها إلينا، وفي تصريحه لـ”البعث” يقول العريفي: “ما يميّز القصيدة تقنية السرد في الخطاب الشعري وأسلوب قصيدة النثر الذي اتبعه الشاعر في تشكيل النسيج الفني لها، فهي تحتوي على تقنيات مختلفة ومتعدّدة، بدءاً من العتبة النصية التي تثير الذهن في عمليةٍ تحليليةٍ للمبنى والمعنى، مروراً بتعدّد الأنماط البنائية حيث البناء الومضي والمقطعي والدرامي، وانتهاء بالخاتمة حيث المشهدية الشعرية التي تنقل للمتلقي لقاءً عاطفياً كخاتمة لقصة عشق أضناها الفراق”.
وردّاً على سؤالنا عن موقع هذه القصيدة ضمن قصيدة النثر يجيب: “هذه القصيدة إحدى قصائد مجموعة كاملة للشاعر بعنوان “ستفتك بك امرأة عالية التفاح” ومع ثماني مجموعات شعرية مطبوعة، فالشاعر لديه تجربة شعرية عميقة في استخدام أساليب البناء وتلوينات الإيقاع الشعري واستخدام اللغة والإبداع في رسم الصورة الشعرية التي تعتمد على الانزياحات اللغوية والرموز، وهذه القصيدة مثال متكامل لقصيدة النثر الشعرية فهي تعج بالأساليب والإيقاعات والصور ضمن لغةٍ جزلةٍ قويةِ الألفاظ والتراكيب وتستقي موضوعها من الإنسان الذي هو غاية الحياة، وما يميز قصائد الشاعر بشكل عام من الناحية الشكلية أنها تنقسم إلى مطولاتٍ ومقطعات قصيرة، وفي كلتا الحالتين تظهر شخصية الشاعر في قصائده، فهو الابن البار للأرض والوطن والمتمسك بتراب القرية وأشجارها ومائها وهوائها وكلّ طيوبها، وهو ابن العائلة التي يعيش بدفئها ويفخر بنقائها، وهو أولاً وأخيراً الإنسان العاشق للجمال، وهذا العشق يظهر في قصائده بأسلوب لغوي أصيل يمتح من أدبيات وأبجديات اللغة العربية الرصينة”.
وبقراءته التحليلية البنيوية في قصائد أسعد يرى العريفي أنه “يقدم تجربة شعرية مميزة في قصيدة النثر، حيث يبني قصائده على أساس من البناء الدقيق والإيقاع الخارجي والداخلي، فمن القصيدة الومضة إلى القصيدة ذات البناء السردي، ومن القصيدة الغرائبية إلى القصيدة ذات البناء الشبكي في تناغمات إيقاعية متوازنة بين التوالد والتضاد والتقابل، ناهيك عن إيقاع البياض والتشكيل البصري، فيتنقل ببراعة ومهارة عالية بين الموضوعات من الوطن إلى المرأة إلى العشق والحب والأرض والإنسان والهوية والانتماء، مُلامساً أعماق النفس البشرية ومثيراً التساؤلات الكثيرة ومتنقلاً بالمتلقي، ومسافراً في متعة الاستكشاف والغوص في أعماق القصيدة”.
ويتوقف د. العريفي مطولاً عند عنوان القصيدة ككلمة مفتاحية للولوج إلى عمق التصوير الشعري، مستحضراً “القاموس المحيط” لبيان معنى المهدبة: “مهدبة زخرف من قماش مهدب يستعمل لتزيين أعلى الباب”، مع الإشارة إلى أن الشاعر لم يقدم قصيدة شعرية بل سفرٌ في أعماق النفس العاشقة المعذبة بفراق من تعلقت به، ففاضت آلاماً وأحزاناً، وعانت الشوق والرغبة، وما هدأت عواصفها إلا بقرب من أحبت، وهفا القلب إليه فتنوعت القصيدة على المستوى الشعوري وفي التشكيل الشعري، وأدت تلك التنوعات دوراً فنياً مهماً في البناء الفني للقصيدة التي بُنيت وفق نسيج فني متماسك من خلال تقنية الانزياح البنيوي التي تذهل المتلقي وتدفعه إلى تحليل عبارات كل صورة مستقلة في ذاتها ومفرداتها وألوانها، ومن ثم استنباط الصورة الكاملة من خلال عملية تركيبية شعرية بنيوية فرضتها الوحدة الفنية للقصيدة، ولا يمكن للمتلقي قراءة كل مقطع ويصل إلى مغزاه وفحواه إلا من خلال عملية ربط محكمة تضفر المقطع الذي سبقه بالمقطع الذي يليه وقد جاءت القصيدة مليئة برموز كثيرة، ظاهرة وخافية وصور قدمها بإحساس عالٍ مرهف لتلك التي وصفها بالمتعالية البعيد عنها في ازدواجية صورية فلسفية شعرية حيث يتخلى النص عن الانزياحات اللغوية لشد المتلقي إلى الرموز الفنية التي تتضافر لترسم صورة فنية عالية في تركيزها، فلسفية في عمقها، مغرقة في كثافتها، واضحة في معناها بعد تحليل ألوانها وتعليل ارتباطاتها ومن ثم تركيب جزئياتها”.
وردّاً على من يقول إن “الشعر في كارثة وقصيدة النثر هي التي تنذر بذلك” يستغرب الشاعر أوس أسعد في حديثه لـ”البعث” وجود من يناصب العداء لقصيدة النثر على الرغم من أنّها باتت تيّاراً أدبيّاً غير حديث: “كلّ رأي إطلاقي وباء يجب التّحصّن تجاهه، ولعلّ قدرة الشعر على الانفلات من المعايير الصّارمة قد فاجأت فقهاء التقاليد الأدبيّة، وأرعبتهم ديناميكيته المتنامية وتجريبيّته التي شطحت باتجاهات مختلفة تعدّت قصيدة النّثر التي غدت واقعاً مكرّساً لا يتناقش عاقلان به، وتالياً فإن ما يقوله بعضهم مجرّد رأي ينقصه الكثير من الاتزان، ومن غير الطبيعي أن يستمع المرء لآراء غدا مكانها الطبيعي المتحف في زمنٍ يعصف بكلّ شيء، والمصيبة أن لهذه الآراء أشباهاً وممثّلين في مجالات الثقافة عموماً، وهذا يعني أنّنا في محنة حقيقيّة لأنّ القديم ما زال يتشبّث بوجوده على الرغمَ من رياح التغيير التي تهبُّ علينا من كلّ الجوانب وتصفع أبوابنا وتهزّ أركان قلاعنا من كلّ الجهات، وبدلاً من أن نحصّن تراثنا بمزيد من المثاقفة ومدّ الجسور مع القادم لنعيد إنتاج أسئلتنا بأجوبة أكثر رحابة فإننا نبني بيوتاً زجاجيّة أخرى سرعان ما ستنهار”.
أما القصيدة التي اختارها د. طارق العريفي فلا خصوصية لها عند الشاعر: “هي عبارة عن مقاطع منفصلة على شكل ومضات وليست ذات وحدة موضوعية على مبدأ القصيدة التقليدية، ولكن لعبة القراءة هي التي أوحت بهذه الوحدة المتخيلة وتلك حالة كيميائية جمالية جيدة، علماً إن المجموعة الشعرية التي تنتمي إليها القصيدة “ستفتك بك امرأة عالية التفاح” توجهت من خلالها إلى شكل جديد من الكتابة ويدعى هندسة البياض، حيث تتميّز بالكثيف والاقتصاد بالكلمات وتترك مساحة انزياحية للبياض لترتاح على مخدتها الكلمات وتتنفس أكثر وكذلك ليرتاح بصر المتلقي أثناء القراءة، ولارتاح أنا أيضاً في تسريح وعول الكلمات لترعى مطمئنة في سهب لا ينتهي من العشب الندي المتواري بين الشقوق والظلال”.
ومن قصيدة “يدُها المهدّبةُ من كثرة الضوء” التي ألقاها الشاعر إلى جانب قصائد أخرى نقتطف: “آنَ تغفو الدروبُ والنهرُ مشغول بحياكة ضفتيه/ أجرجر السروة إلى زهوٍ عتيق وأكتبُ احتمالك/ لا تثقب الستارة، سيسيل كلام كثير، أيها الشاعر/ هذي المياه أطول من مجراها هذي المياه، لم ترَ الزهرة قادتكَ إلى فواحها لم تعرف المرأة”.