عن إعادة التموضع.. ودور النخب
بسام هاشم
في مرحلة ما بعد الانتصار على الإرهاب، وفي سياق إعادة بناء الدولة الوطنية، تجد سورية نفسها أمام تحديين اثنين: إما صناعة نخب جديدة مهمتها النهوض بعملية التغيير، وإما تغيير دور النخب التقليدية بحيث تكون في المكان الذي يؤهلها للمساهمة في – أو لقيادة – عملية التغيير مجدداً.
وإذا كان من المتاح، وفق التوصيف السياسي والمجتمعي على الأقل، اعتبار كوادر حزب البعث نخبة قائمة بحد ذاتها، إلا أن من الضروري في مرحلة تالية التمعن في “إشكالية” النخبة البعثية إن صحت التسمية، والتي يتحتم عليها اليوم أن تعيد النظر في تركيبتها الاجتماعية والمهنية، وفي دورها في المجتمع، وفي “مكانها” ومكانتها فيه، وحتى في الحيز الجغرافي لعلاقتها مع قواعدها البعثية، وعلاقتها بالمجتمع بمفهومه الواسع؛ بمعنى “إعادة تموضع” هذه النخبة، تماماً كما هو الحال مع “إعادة تموضع البعث” ذاته في إطار المنظومة الشاملة للعلاقات بين الحزب والدولة والمجتمع.
بداية، علينا أن نعترف أن الشارع “العميق”- خاصة في بدايات الحرب – تُركَ فريسة للأدعياء والأفاقين والمشعوذين الذين استغلوه أبشع استغلال ومارسوا بحقه شتى فنون التدجيل، من خلال “فتاوى مستعجلة” تلبي متطلبات العمالة والارتزاق والنزعات الإجرامية الشخصية، وأن الانكباب الموضوعي، والبحث الهادئ والعميق الغور، في أسباب الحرب، ينبغي، بالتالي، ألا يعفينا من الاعتراف بقصور العوامل الذاتية المتمثلة، في أحد جوانبها، بما يمكن أن نطلق عليه “نقص مناعة وطنية”، ظهر لدى “سوريين” كثيرين على امتداد يوميات الحرب، وفي تفاصيل ومشاهدات فرضت نفسها بأشكال عدة، قسرية وقاهرة أحياناً، لا سيما وسط تلك الشرائح المهملة، أو المبعدة، أو – بتعبير السيد الرئيس بشار الأسد – “الشرائح المتنحية” التي نأت بنفسها مفضلة الانسحاب لأسباب كثيرة، في مقدمتها ذلك الشعور بالاستفراد (في مواجهة مجموعات إرهابية متغولة تملك مطلق السيطرة على بيئاتها المحيطة)، وكذلك نتيجة بعدها – أو إبعادها – عن النخب (!؟) التي كان ينبغي لها أن تكون حاضرة في المجتمع، وليس في أبراج عاجية، وأن تنخرط بالاهتمامات والتفاصيل اليومية لـ “السوري العادي”، و”ابن البلد”، لا أن “تتشرنق” حول ذاتها في شرائح وشبكات مغلقة مقفلة على ذاتها، وأن يكون لها دورها الرئيسي والحاسم في مواجهة ثقافة إسقاط الدولة، وتكفير المجتمع، لا أن تتحول إلى عبء على الدولة، وعلى الروح البعثية الأصيلة، من خلال رؤية للعالم وللمحيط قائمة على الأبيض والأسود، والاكتفاء باحتكار المناصب أو تدويرها، مع شيء غير قليل أحياناً من العجرفة والأنانية، في ظاهرة استفحلت خلال سنوات الحرب، وامتلكت من الجاذبية بحيث أصبحت أنموذجاً متبعاً..
إن العودة إلى المجتمع، إلى الفضاء الأوسع، تعني العودة إلى التفاعل الحي مع الواقع، ومع البيئة المجتمعية التي هي مصدر التنوع والثراء والإبداع، وإلى الخزان الحقيقي المشبع بالقيم الوطنية، للالتصاق بهمومه ومشاكله وتمثل تطلعاته وطموحاته، وليس التعالي عليه معتقدة أن العالم كله يدور حولها فقط!! وإذا كانت سورية تحتاج اليوم إلى نخبة (نخب)، فهي النخبة التي تمارس دورها بين أهلها، وفي أحيائها ومناطق سكنها، ومن هم بحاجة لوعيها وثقافتها الوطنية والتزامها، نخبة ملتصقة بالمجتمع لا منسلخة عنه، تعيد للحزب دوره الاجتماعي والثقافي بالمعنى العميق للكلمة، وليس استعارة دور الوجاهات أو الجمعيات الخيرية..
لقد أرست سورية دعائم الدولة، وبنت مؤسسات قوية صمدت أمام الهجمة الداخلية والخارجية، ولكن هذه المؤسسات لا تمارس دورها المرسوم لها، ولا المطلوب منها، ولا الموجودة من أجله.. ولنعترف مثلاً بأن هناك مؤسسات كتبة لا مؤسسات صحفية أو إعلامية.. مؤسسات نشر لا مؤسسات للإبداع.. وجامعات تفرخ الأمية. وأن إنتاج النخب يتم، منذ سنوات طويلة، وفق آليات مكتبية بيروقراطية، وفي إطار ممارسات طافحة بالشللية، ليكتسب الأمر لاحقاً طابعاً عشوائياً، لا يمكن التحكم به، مع مئات الشهادات التي وزعت دون اعتمادية، وفي غياب الأهلية العلمية والأكاديمية الحقيقية، علاوة على غياب الكاريزما وفقدان ثقافة المنصب، وحتى ضياع أدنى البروتوكولات المتعارف عليها لدى رجالات الدولة، مكتفية فقط بالاعتياش على ما يملكه النظام السياسي من رصيد الثقة والشعبية.