دراساتصحيفة البعث

عقيدة ترامب .. “الخوف عبر الجنون “

د . خلف المفتاح   

فاز الرئيس ترامب في الانتخابات الأميركية، وسيواجه مجموعة من المشكلات بعد توليه الرئاسة، والذي وعد العالم والأميركان أنها ستختفي بعد توليه الرئاسة، فقد وعد بإنهاء كل الصراعات التي تورطت أميركا بها مثل حرب أوكرانيا، وسيحل السلام في منطقة الشرق الأوسط، والسؤال كيف سيدير ترامب وفريقه الحكومي علاقاته مع دول العالم؟  والجواب لا أحد يعلم ولماذا !

المعروف عنه أنه لا يمكن توقع تصرفاته وقراراته، وهو يحب أن يرسخ هذه الصورة في أذهان الجميع، ويعتبر ذلك نقطة قوة وقد وصف ذات مرة نفسه بالجنون، وسياق العبارة  بالغ الأهمية، حيث جاء ذلك في حديث أجرته معه صحيفة “وول ستريت جورنال” عن العلاقة مع الصين، حيث قال سأفرض ضرائب ضخمة على الصين في حال حصارها لتايوان، واستبعد الخيار العسكري بقوله إن الرئيس الصيني يحترمني ويعلم أنني مجنون!

وقد اعتبر أحد الكتاب في موقع “إكسيوس”  هذه الجملة مفتاحاً لفهم عقيدة ترامب لجهة أن كل رئيس يأتي للبيت الأبيض لديه عقيدة أو مبدأ واضح يشتغل عليهما، وثمة أمثلة عديدة على ذلك فهناك عقيدة “مونرو” نسبة للرئيس الأميركي جيمس مونرو، وتعني أن الأميركيتين مجال حيوي ومنطقة نفوذ خالصة وحديقة خلفية لأمريكا محظور على الأوروبيين  أو غيرهم التدخل فيهما. وهناك أيضاً عقيدة “ترومان” وملخصها دعم أميركا للدول التي تقاوم الشيوعية واحتواء الاتحاد السوفييتي ومنعه من نشرها. وعقيدة “نيكسون” المتعلقة بأن أميركا تدعم أوروبا، ولكنها لا تدافع عنها.

أما عقيدة “ترامب” وفقاً لما جاء في صحيفة “وول ستريت جورنال” فهي خوف الخصوم من تصرفاته غير المتوقعة، فهو يعتقد أنه سيحقق السلام في أوكرانيا، ويكبح ممارسات الصين التجارية غير العادلة، حسب رأيه، ويمنعها من غزو تايوان ويجبر الحلفاء على الدفع مقابل الحماية، لأن صناع القرار في هذه الدول يخشون ما قد يفعله، فهو زعيم مجنون يحكم أقوى دولة في العالم قادرة على الأذى، فأنصار ترامب يرون (جنونه ) ميزة وليس عيباً، فعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته يساهم في ردع خصومه، وبالتالي تحل أكثر مشاكل العالم تعقيداً، وهذا ما قاله رئيس الاستخبارات الوطنية الأمريكية، وهو الجهاز الأم لكل أجهزة الاستخبارات الأميركية وكان قد عمل مع الرئيس ترامب في ولايته الأولى، فهو يرى أنه شيء جيد أن لا يعرف أو يتوقع الأعداء تصرفاتك. واتساقاً مع هذه الفكرة يصف شخصية ترامب بعدة عبارات من قبيل أنه غير منطقي، وغير متسق، وغريب الاطوار، ويصعب التنبؤ بتصرفاته وهكذا، ولعل هذه الطريقة، أي إخافة الناس بجنونه، هي نظرية في العلاقات الدولية اسمها نظرية “الرجل المجنون”، وكانت هذه الصفة النظرية موجودة عند الرئيس الأميركي نيكسون، حيث كان يعتقد خصومه أنه قد يتخذ قرارات خطيرة بشكل سريع، وعندما يقنعوا الدول بهذه الفكرة فإن كثيراً منها ستتجنب استفزاز أميركا خوفاً من ردة فعل الرئيس.

وقد أعدت مجلة  “الايكونوميست”  ملفاً تحت عنوان “مرحباً في عالم ترامب” وفيه ثلاثة عناوين: الأول حلفاء أميركا يستعدون للمغامرة الخطيرة بالصفقات والخيانات، والعنوان الثاني الذي يخص التجارة العالمية حيث سترتفع الضرائب والحمائية فعودة ترامب تثير الأسوق ولكنها تخيف العالم، والثالث هو أن الأميركيين اختاروا ترامب لأن الحزب الديمقراطي كان الأسوأ.

والحقيقة أن ترامب يختلف عن كل من سبقوه من رؤساء أمريكيين برفعه شعار “أمريكا أولاً” فهذا يعني أنه لا يقيم وزناً للنظام الدولي ومؤسساته، ولا الاتفاقات والمعاهدات القائمة إلا من خلال معيار المكسب والخسارة وفي صالح أميركا، والمكسب يجب أن يكون مباشراً، وليس مؤجلاً، إضافة إلى أن ترامب رجل الأعمال يعتبر أمن أوروبا عبئاً على أميركا، فهم من وجهة نظره ينعمون بمظلة الحماية الأمريكية، ولا يدفعون شيئاً مقابل ذلك، فالبنتاغون وفق  ترامب والذي تبلغ ميزانيته أكثر 841 مليار  دولار لا يجب أن يكون مؤسسة خيرية للحلفاء، وهذا لا يعني أن من سبقه من رؤساء كان يتصدق على حلفائه، ولكن التصورات مختلفة فمعظم من حكموا أميركا منذ تأسيسها قبل 255 سنة ونيف خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إما من أتباع مدرسة “هاملتن أو ويلسون” في العلاقات الخارجية، ومدرسة “هاملتن” وهو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية  يعتقدون أن على أمريكا أن تكون على نفس مستوى القوة التي كانت بريطانيا عليها في عصر المستعمرات، ولكي يتحقق ذلك أي تصبح أمريكا بنفس الموقع والقوة فعليها أن تمتلك قوة اقتصاد بريطانيا، وهذه القوة لا تتحقق إلا من خلال قوة الشركات التي تعمل داخل أمريكا وخارجها وعلى الحكومة الفيدرالية الأمريكية حماية هذه الشركات وتقويتها، وهذه تحتاج إلى مسألتين: بناء نظام عالمي للتجارة والاقتصاد يصب في صالح الشركات الأمريكية، وثانياً منع أية دولة من الوصل لمستوى القوة التي تهدد به المصالح العليا الأمريكية، وإذا حدث ذلك وقويت دولة لتصل إلى تلك المكانة على الحكومة الأميركية القيام بتحالف ضد هذه الدولة ومواجهتها بالطرق السلمية، فإن لم تجد فبالطرق  العسكرية، وهذا ما تفعله أمريكا في مواجهة الصين  وروسيا راهناً.

أما مدرسة “ويلسون” فأتباعها يؤمنون بضرورة أن تقوم أمريكا بنشر قيمها حول العالم، أي تحويل البلدان الأخرى إلى نظم شبيهة بالنظام الأمريكي أي ديمقراطيات على الطريقة الأمريكية، والسبب وراء ذلك أن الأمريكيين يعتقدون أن وجود أنظمة ذات أيديولوجيات مختلفة ومتعارضة مع منظومة القيم الأمريكية ستضر بها، والمثال على ذلك ألمانيا النازية، والاتحاد السوفييتي الشيوعي، والنخب العسكرية في اليابان، والفاشية الايطالية، وأفكار بن لادن وتنظيم القاعدة، التي تؤدي إلى اشتعال حروب وصراعات.

من هنا على الولايات المتحدة وحلفائها أن تدير العالم وفق رؤيتها من خلال منظمات ومؤسسات هي تصنعها، ولكن ترامب لا يؤمن بكل هذه الأفكار، فهو ينتمي لمدرسة الرئيس أندرو جاكسون وهو الرئيس السابع للولايات المتحدة الأمريكية، الذي يعتقد ويرى بعدم الاهتمام بالعالم الخارجي، فليس مهماً لأمريكا أن تدير العالم من أساسه، فالعالم يدير نفسه وتترك أمريكا الآخرين يعيشون كما يحبون مادام أنهم لا يلحقون ضرراً بأمريكا.

ومن هنا ليس من الضرورة أن تتحالف أمريكا مع دول يلحقها ضرر بسببها فلا يجب شن حروب إلا في حالة تشكيل خطر مباشر عليها، فالجانكسيون  الذين ينتمي إليهم دونالد ترامب، والذين اختار فريقه السياسي والتنفيذي من أغلبيتهم لا يهتمون إلا بمصالح أمريكا، حتى لو تعارضت مع القوانين والأعراف الدولية ولا يتقيدون بالعولمة والانفتاح، ويرفضون الهجرة إلى أمريكا بكل أشكالها .

إلى جانب ما سبق، كان كل الرؤساء يحرصون على كل دول حلف الناتو، لأنه يجعل من أمريكا أكبر قوة في التاريخ، فبدونه لا يمكن لأمريكا أن تنتصر في أية حرب محتملة ضد الصين أو روسيا، فترامب يرى دول الحلف (كائنات طفيلية) تعيش على حساب أمريكا فأغلب دوله تشعر بالأمن دون قوة عسكرية فقط، لأن أمريكا عضو فيه فعلى هذه الدول أن تضاعف ميزانيتها العسكرية، وتشتري السلاح من شركات أميركية، وهنا تنتعش تلك الشركات وبالتالي الاقتصاد الأميركي، وبدون هذا الشرط لن يحظون بدعم أمريكي فهو لا يرغب بالحروب التي تخوضها أميركا، ولكنه يفضل أن تنشب حروب لتسويق السلاح الأمريكي، فهو ليس مناهضاً للحروب ولكنه مناهض لتكاليف الحروب، فهو ليس رجل سلام ولا يمانع في حروب لا تدفع أمريكا أثمانها، بل تقبض  أثمانها شركات سلاحه فهو يسعى لأن يكون الجيش الأمريكي وخدماته مصدر للدخل القومي، وليس استنزافاً له فحلفاؤه بهذا المعنى هم من يدفعون لا من يأخذون، لذلك نرى أنه في طريقة تفكيره لا ينظر للأوروبيين على أنهم حلفاء جيدين، وهنا فهو لا يرغب أن يكون الاتحاد الأوروبي بصوت واحد قادر على منافسة أمريكا، ويرحب بانسحاب بريطانيا وغيرها منه ليستفرد بأعضائه واحداً واحداً، لذلك من المتوقع أنه في ولايته الثانية سيسعى لإضعاف ذلك الاتحاد لذلك بدأنا نسمع أصواتاً تعبر عن رغبة في بناء قوة عسكرية واقتصادية أوروبية موحدة ومستقلة عن الهيمنة الأمريكية وابتزازاتها مع أنه سيناريو صعب ومعقد لأن في ذلك خدمة لكل من روسيا والصين وهذا ما لا ترغبه أمريكا.

وما دمنا في الحديث عن أوروبا فربما سيكون أكثر المتضررين من رئاسته الرئيس الأوكراني زيلينسكي، فقد وصفه ترامب مرة بأنه أعظم مندوب مبيعات في العالم، فكلما زار أمريكا عاد ومعه مليارات الدولارات، لذلك وعد بإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بيوم واحد دون أن يعلم أحداً سوف يفعل ذلك، وعلى الأرجح أنه سوف يوقف دفع الأموال لأوكرانيا إن فشل في وقف الحرب، وسيقول للأوروبيين أوكرانيا مشكلتكم وليست مشكلتي فتحملوا تكاليف دعمها.

وبالنتيجة يرى ترامب في علاقات أمريكا مع بعض الدول التي تحظى  بحمايتها أنها أشبه ما تكون بشركات التأمين، أي الحماية مقابل المال، من هنا نكتشف أن فكرة الهيمنة لم تغادر الفكر السياسي الأمريكي، ولكن يعاد تعريفها من هيمنة عبر القوة العسكرية إلى هيمنة عبر القوة الاقتصادية، أي ديباجة جديدة لعنوان ثابت

فكل ما يريده ترامب أن يضاعف حلفاؤه أو لنقل زبائنه حجم مشترياتهم العسكرية من أمريكا أضعافاً مضاعفة كما هو حال تايوان واليابان وكورية الجنوبية وغيرها من دول أخرى، إضافة إلى أنه تحدث عن ضرورة أن تدفع كل من كورية الجنوبية واليابان تكاليف وجود القوات الأميركية فيها، إضافة لهامش ربح قدر بـ 18 مليار دولار سنوياً، فترامب وفق ذلك التفكير لن يكون مشكلة لخصوم أمريكا فقط، وإنما مشكلة حقيقية لحلفاء أمريكا وأتباعها وربما يستثنى من ذلك كله “إسرائيل” التي ستكون أكثر المستفيدين والمستثمرين في فترة ولاية ترامب الرئاسية، فهو سيعيد تفعيل مشاريع سابقة له من قبيل “صفقة القرن، والسلام الاقتصادي والاتفاقيات الإبراهيمية، وغيرها وكل ذلك سيكون إن حصل على حساب القضية الفلسطينية والدول العربية إن لم تتحسب لتلك السياسات، وتنسق وتعمل ضمن إستراتيجية مواجهة لتلك السياسات التي لم تعد مؤامرة تحاك بقدر ما هي خطط تنفذ على صعيد الواقع .