الكيان الصهيوني يعيش أزمة ثقة سياسية
د.معن منيف سليمان
يعيش الكيان الصهيوني أزمة سياسية مُتفاقمة، في ظل تصاعد وتيرة الحرب الوحشية على قطاع غزة ولبنان واحتمال اتساع رقعة المواجهات، تتجلى في غياب أي أفق سياسي واضح أو حلول مرتقبة لوقف العدوان. ومع سلسلة الإخفاقات الصهيونية في قطاع غزة ولبنان جعلت من قضية استعادة الثقة أمراً صعباً للغاية، سواء من الناحية العسكرية أو النفسية.
إذا كان ثمة ما يحتاج الكيان لإنقاذه منه فعلاً؛ فإنّه “بنيامين نتنياهو” الذي يسيطر على قراره، وقد تبدّى أنه يعمل لحسابِه الخاص، ويمكن الجزم بأن كل أزمات الكيان الحالية صنيعة “نتنياهو”. ذلك أنه اختار صورةَ “البطل المنقذ”؛ وشن حرباً على أعدائه وخصومه وبيئته على حدٍ سواء، سعياً لتعميق الأُصولية الدينية في مناخٍ كان يتعثر في علمانيّته. وفى المقابل، عمد لتغذية الأُصوليّة المعادية؛ لتكون ذريعةً لسياسته، وأداةَ توجيهٍ من الخارج، بالضغط على عصب المجتمع ودفعه إلى الاستعانة بالتطرف، الديني والقومي، كبديلٍ معنوي عن الحاضنة الآمنة غير المتحقّقة في الجغرافيا.
ومثلما هو ينهش في أعدائه فإن “نتنياهو” ينهش في قطيعه السياسي أيضاً، حتى بات من الواجب أن يقع انقلاب كامل على إرثه وعقيدته السياسية برمتها بالنظر إلى مسألة حل الدولتين إقليمياً ودولياً، التي صارت بعيداً من إمكانية التحقق؛ فالأزمة في حيز المستحيل فالكيان غير قادر على إلغاء الفلسطينيين وشطبهم من الوجود، ولعلَّ خطوة الحل الأُولى تبدأ من إزاحة زعيم الليكود، بالسياسة أو بأية وسيلة غيرها؛ ويظن أنها باتت أقرب كثيراً ممَّا يَتمنى خصومه ويخشى أنصاره، ومما تحدثه نفسه في أسوأ الكوابيس.
إن الإجراء المفاجئ الذي قام به “نتنياهو” بإقالة “يوآف غالانت” من منصب “وزارة الدفاع” واستبداله بـ”إسرائيل كاتس” في منتصف الحرب قد أدى إلى وصول التوترات السياسية والأمنية في الكيان إلى ذروتها وتسبب في قلق كبير في المجتمع الإسرائيلي. وأدت الخلافات بين “نتنياهو” و”غالانت” حول القضايا الرئيسة، بما في ذلك كيفية تبادل الرهائن والخدمة العسكرية الإلزامية لليهود الأرثوذكس، إلى انقسام في مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي لسنوات. والآن، ومع إقالة “غالانت”، الذي يعدّه الرأي العام صوتاً معتدلاً وملتزماً بالمبادئ الأمنية، اتجه “نتنياهو” نحو توجهات أكثر عدوانية ويمينية؛ وهو النهج الذي واجه العديد من الاعتراضات والمخاوف.
ولم تؤدِ هذه التغييرات إلى إضعاف بنية مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي فحسب، بل عززت أيضاً ائتلافات اليمين المتطرف في حكومة “نتنياهو”. ويرى بعض المحللين أن هذا الإجراء هو محاولة من “نتنياهو” للحفاظ على السلطة وزيادة نفوذه بين حلفائه السياسيين والدينيين. ويعتقد البعض، بإقالة “غالانت”، أن “نتنياهو” ضحى بأمن الكيان من أجل مصالحه السياسية وعزز دكتاتوريته الشخصية، وهو موضوع يمكن أن يخلق المزيد من التحديات له في المستقبل.
هذا القرار أشعل موجة من ردود الفعل، حيث وصف زعيم المعارضة “يائير لابيد” الخطوة بـ”الجنون السياسي”، فيما عدّ “بيني غانتس” أن الإقالة تهدد أمن “إسرائيل”.
وسوغ “نتنياهو” قراره بإقالة “غالانت” بأزمة الثقة التي نشأت تدريجياً بينهما، ولم تسمح بإدارة طبيعية للحرب، مشيراً إلى أن “أزمة الثقة التي حلت بيني وبين وزير الحرب لم تجعل من الممكن استمرار إدارة الحرب بهذه الطريقة”. وأضاف “نتنياهو” أنه “على ثقة بأن هذه الخطوة ستجعل مجلس الوزراء أكثر انسجاماً”.
ومن ناحية أخرى، أجبر طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023، العديد من المستوطنين الصهاينة على مغادرة منازلهم في الجنوب بالقرب من حدود قطاع غزة. كما أدى إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون بشكل شبه مستمر في شمالي فلسطين من قبَل المقاومة اللبنانية إلى نزوح عشرات الآلاف. ويعيش الآن ما مجموعه أكثر 250 ألف إسرائيلي بعيداً عن منازلهم، ويشكل منح هؤلاء الناس الثقة بالعودة إلى منازلهم أولوية للحكومة الإسرائيلية، وتحدياً لقدرة رئيس وزراء الكيان الوفاء بوعوده المتكررة لإعادة هؤلاء إلى منازلهم.
ولكن الإخفاقات الصهيونية جعلت من قضية استعادة الثقة أمراً صعباً للغاية، سواء من الناحية العسكرية أو النفسية، حيث يتعين على جيش الكيان أن يكون قادراً على هزيمة المقاومة في فلسطين ولبنان أو ردعهما. ولكن “الهزيمة” و”الردع” لا زالا هدفان بعيدا المنال، ويتعين على الكيان أن يقنع قطعان مستوطنيه بأنهم آمنون. وهذا في غاية الصعوبة في ضوء عملية إخفاق قوات الاحتلال في الدفاع عن المجتمعات القريبة من غزة أو التي تقع في شمالي فلسطين.
وقد يحتاج الكيان أيضاً إلى نشر أعداد كبيرة من القوات على كل جبهة وتزويد كل منطقة مأهولة بقدرات أكبر للدفاع عن النفس. ومثل هذه التدابير مكلفة وصعبة بشكل خاص بالنسبة للكيان لأن قوته العسكرية تعتمد على جنود الاحتياط، ما يجعل من الصعب الحفاظ على جيش كبير في حرب طويلة.
وفي مرحلة ما قادمة سوف يضطر الكيان إلى إجراء عدد من الترتيبات الأمنية والسياسية، ولكن خياراته ضعيفة لمعالجة الوضع في قطاع غزة فيما يسمى “اليوم التالي” لإنهاء عدوانه. فهو لا يستطيع البقاء في القطاع، والسلطة الفلسطينية – كخيار بديل عن حماس في غزة – عاجزة وليس لها شعبية، وأدت سياسات الكيان في الضفة الغربية إلى ضرب مصداقية السلطة الفلسطينية، كما أدى طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي إلى تآكل شعبيتها بشكل أكبر، وبالكاد تستطيع أن تدير الأمن في الضفة الغربية دون مساعدة إسرائيلية كبيرة.
ومن المؤكد أنه لا يمكن التغلب على هذه التحديات من دون خلق مشاكل وضغوط إضافية للكيان الصهيوني داخلياً وخارجياً. ولهذا فإن الكيان المتأزم سوف يضطر إلى تقليص أهدافه في نهاية المطاف، والرضوخ لمنطق المقاومة التي لا يمكن للكيان أو غيره أن يقضي على عقيدة المقاومة لأن المقاومة فكرة والأفكار لا تموت، وسوف يكون مجبراً على الجلوس على طاولة المفاوضات للخروج من أزمته السياسية.