الّذين يشمخرّون بخياشيمِهم..
وجيه حسن
من باب أمانة الكَلِم، وعافيةِ السّرد، فإنّ هاتِهِ الكلمات الواردة في العلْوان، ليست من بنات أفكاري، وليست من آباء إبداعاتي، إذا كان ما أكتبه وأحبّره يدخل في هذا السّياق، أو يقاربه، أو يتماهَى معه بشكلٍ أو بآخر..
وبهذا المغزى، يقول الأديب الروسي الكبير “أنطون تشيخوف”، مخاطباً أولئك المتورّمين المنفُوخِين كبالونٍ مملوءٍ بالهواء، الذين يتعالَون على النّاس بعامّة، ويستعلون بآنافهم وفظاظتهم على فئات الفقراء المُستضعَفِين في الأرض، حدّ الغطرسة والخُيَلاء والتورّم، وهُم “أعني المنفُوخِين” في حقيقتهم والجوهر أضعفُ من جناح بعوضة، وأدنى مستوىً من شفرة حلاقةٍ مرميّةٍ على قارعة الطريق، وهُم في أُسِّ معدنهم أقلُّ قيمة ووزناً وشأناً من خَشَاشِ الأرض، أو سَقَط المتاع، أو خفافيش الليل: (اسمَنُوا أيّها المُتعالُون كالدّيوك المَعْلُوفَة، لكنْ إيّاكم إيّاكم والسّخرية والاستهزاء بكراماتِ النّاس وكينوناتِهم؛ وإذا لم يكن في مقدوركم، أو في وسعكم أنْ تحترموها، وأنْ تقدّروا إنسانيّتها التي جُبِلَت عليها ابتداءً، فاعفُوها على الأقلّ من دائرة اهتمامكم، واتركُوها وشأنها، يا لهذه النّفوس التّعِسَة الخَرِبَة..)، إلى هنا ينتهي الاقتباس!!
ألا نرى جميعاً، إلى أنّ كلام الكاتب “تشيخوف” – الذي ينساب ناعِماً سلِسَاً غزيراً دفُوقاً، كما يسيلُ الماءُ من ميزاب – يصيب عين الحقيقة وكَبِدَها وثيمتها بآنٍ، ويهزّ شجرة الوجدان هزّاً لا هوادة معه، إنْ بقي بعضٌ منه لدى هؤلاء المعلُوفِين المُتَدَيِّكِين وأمثالهم؟
القول هنا بكلِّ صدق ومُفاسَحة، يشير إلى أنّ الدّيك المعلوف، الذي يخنقه الدّهن، ويعضّ على نَفَسِهِ عَضّاً، ويلوي عنقه لَيّاً، هو قريب جدّاً من صنف هؤلاء التّعَسَاء المُفلِسِين المنْفوخِين، الذين لا يقدّرون كرامات النّاس في الحياة، ولا يحترمون وجودهم الآدميّ، لا من قريب ولا من بعيد، بل ينظرون إليهم من هناك، من الباب العالي، أو من البرج العاجِيّ كما يُقال، فكيف يستقيم هذا الفعل السّاقط المُدان مع إنسانيّة الإنسان، مع كرامته وحريّته، ومع الحكمة من وجوده تحت سقف السّماء، وفوق بساط الأرض المُتراحِبة، علماً أنّ البشر هم جميعاً أبناء تسعة الأشهر، إلّا ما ندر؟!
ويقول الكاتب النّاقد “تشيخوف” أيضاً: (إنّ العظماء هم أبسط سلوكاً، وأكثر فهماً، وأعذب شعوراً، وأقرب بأرواحهم إلينا من كلّ هؤلاء المُتعالِين المَعلُوفِين، الذين يشمخرّون بِخياشيمِهم، الذين نعيش بينهم، ويعيشون بيننا، في هذا المجتمع، أو في سواه)..
لقد كان هذا الكاتب العبقريّ جميلاً في أقواله وبساطته وإنسانيّته وجرأته ومكاشفته، فقد أحبّ في حياته كلّ ما هو بسيط، حقيقي، صادق، جريء..
وحين سأله أحد النقّاد الرّوس:
– مَنِ الأقوى في نظرك من جنس البشر سيّد “تشيخوف”؟
أجاب سائِلَه بأريحيّة مشهودة، ورحابة قلب قائلاً:
-الذين يتغذّون أفضل.. ومَنْ هُمْ أكثرُ ثقافةً ووعياً وقراءةً وإنسانيّةً وبساطةً وصدقاً..
ويقول الأديب “تشيخوف”: (الآن أوانُ بذْر “الجودار”، أي “القمح”، فكيف تبذره أيّها الإنسان المَعلُوف المُفلِس المُتعالِي، وليسَ في جعبتك بذور)؟!
ومن الجدير ذكره بهذا الصّدد، أنّ الإنسان – مطلق إنسان – إذا جعل نفسه قنطرة، أو جسراً، أو قشرة موز، أو أرضاً واطِئة، فعليه أنْ يتحمّل دَوْس الأقدام، أو عبور الأظلاف فوقه بآنٍ..
ثمّ ألم يقل شاعر عربيّ يوماً، مُبيّناً قيمة التّواضع في الحياة:
(مَلأى السَّنابِلِ تَنْحنِي بِتَواضُعٍ والفارِغاتُ رُؤُوسُهنُّ شَوامِخُ)؟!
ويقول الكاتب “تشيخوف”: (إذا كنتَ خيّاطاً قديراً جديراً بالاحترام والتّقدير، فَخيِّط بعد أخْذ المقاس على طول الزّبون، من دون زيادة أو نقصان، أو أدنى خطأ.. اقفز من أعلى البُرْج، شرط أنْ تدخلَ بقدميك في الحذاء مباشرة.. أرأيت)؟
عَوْد على بدء.. إنّ هؤلاء المُتَعالين وأمثالهم، الذين يسمنُون كالدّيوك المَعلُوَفة، هُم في حقيقة الأمر علّةٌ وعالةٌ على أيّ مجتمع، وهُم كَلٌّ عليه، وعبءٌ ثقيل بآنٍ، لأنّهم في حقيقتهم وجِبلّتهم وسلوكاتهم لا يحبّون سوى التّطاوُس والاستعلاء، وتهرِيم المال، والسّطو على حقوق العباد والبلاد بأيّة وسيلة، وأيّ سبيل: بالحرام، بالغشّ، بالحِيلة، بالسّمْسَرة، بالابتزاز، بالباطل، بالتّهريب، بالكذب، بالرِّشى، بالفساد الإداري المقيت، بالقوّة، بالخوّة، “بالبَلطَجة”، بالرّبا المُدان، باللّفّ والدّوران، إلخ، وكلّ هذا وسواه، ويا للأسف، هو من صلب دائرة تفكيرهم،أو بؤرة ضمائرهم!
فهذه الضّمائر الخاوية، الملوّثة بِطِيْنِ الفساد والإفساد موضوعةٌ منذ زمن بعيد في ثلاجة البيت، أو في سقيفة المخزن، أو بأحد مستودعات الخُرْدَة، لأنّ آلام الناس الغَلابَة، لا تحرّك مقدار قُلامَة ظفرٍ في نفوسهم أو قلوبهم أو أرواحهم الخشبيّة المقيتة، ألبتّة..
ويقول الأديب “تشيخوف” كذلك: (آنَ لنا أنْ ننتبه جيّداً إلى أولئك الذين لا يريدون أنْ يمتثلوا للقوانين، والذين يضربون بها عرض الحيطان ضرْباً هزليّاً من باب التّعالي والانتفاخ والتّدَيُّك والتّطاوُس والعبث)..
هل نتعلّم؟ هل نرْعَوي؟ هل نفهم؟ هل نكون معاً، كباراً وصغاراً، أهلاً للتّواضع، وأهلاً لتطبيق القوانين بحذافيرها، من دون تطاوُل أو تعالٍ أو تجاهل، كي نسير طُرّاً بأقدامٍ ليست عَرْجَاء، وبعقولٍ ليست مُعطّلة، وبنفوسٍ ليست خَرِبَة مُتطاوِسَة؟ وكي ننهض معاً بالوطن من كبواته وجراحه وآلامه، قبل أنْ نغرق جميعاً في حمأة الأوْحال والمواجع والمفاسد أكثر فأكثر؟!
ختاماً يقول شاعر عربيّ:
“وَمَنْ كانَ ذا خُلُقٍ فاضِلٍ فَيُحْمَدَ في النّاسِ حَمْداً كثيراً”
“وَمَنْ كانَ ذا خُلُقٍ سيِّىءٍ فَيُهْجَرَ حتَّى يموتَ حَقِيراً”…