الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

توفيق فياض

حسن حميد

قبل أربعين سنة وأزيد، كنّا على شوق عميم لنعرف ماذا يكتب الأدباء، والكتاب الفلسطينيون في داخل الوطن الفلسطيني المحتل، بل كنا على شغف لننقب في نصوصهم التي راحت تصل إلينا منجمات، لبيان ما فيها من جمال، ورؤى حول ماهية الصراع العربي/ الصهيوني ومآلاته، وماذا يقول أبناء الأرض الفلسطينية عن الأرض وغاصبها المحتل، وعن وجوه المواجهات والمداهمات مع عدو عرف بسفك الدماء ، وارتكاب المجازر الوحشية، والحقد على كل من هو عربي، ولم تكن أسماء الأدباء الفلسطينيين المعروفين آنذاك كثيرة، ولكن قلتها كانت غنى، وتجارب أدبائها كانت ممهورة بالمصداقية والتجارب النضالية التي عانت الكثير داخل زنازين العدو الإسرائيلي ومعتقلاته، ومن هذه الأسماء الأدبية، الروائي والقاص والمسرحي توفيق فياض الذي عاش في قريته المقيليبة في محيط مدينة حيفا، ودرس وتعلم فيها وفي محيطها، ثم عمل في حيفا، ويافا، أعمالاً حرة، وتعلّم اللغة العبرية حتى أتقنها بحذق، وصادق وزامل معظم الأدباء والشعراء الفلسطينيين الذي شكلوا الجيل الإبداعي الأول داخل الوطن الفلسطيني المحتل بعد نكبة عام 1948، ومنهم أميل حبيبي، وأميل توما، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وسالم جبران، وراشد حسين.. إلخ.

امتاز توفيق فياض (مواليد 1939) بعشقه لفن القصة القصيرة، فكتب قصصاً واقعية مدهشة، وسبب الدهشة فيها هو أنّ واقعها فاق في صوره و تصوراته الخيال والمجازر، كتب عن الناس عشاق الحياة والأرض، والتراث، الذين ضحوا بأعز ما يمتلكون من أجل الحفاظ على الحياة والأرض والتراث، كتب عنهم وهم يقاومون، وهم يحلمون داخل الزنازين وخارجها، وكتب عن تهويد الأمكنة، وروى القصص والروايات والأخبار، وكتب عن حالات القهر التي مارسها الإسرائيليون على الفلسطينيين كي يمحوا خزين ذواكرهم، وما احتشدت به من الآلام وصور العذاب والمقارعة مع العدو الإسرائيلي.

كتابة توفيق فياض انصرفت إلى رسم معاني الوعي الفلسطيني التي استندت إلى فطرية التمييز ما بين الخير والشر، والعدل والظلم، والخوف والطمأنينة، والحضور والغياب. كتب عن الأمكنة المعتمة/ السجون والزنازين، فجسد تجربته ومعرفته الوافية بالسجن الإسرائيلي، فقد سجن، وتنقّل بين السجون والمعتقلات الإسرائيلية زمناً مداه عقد الستينيات، فعرف ما يريده الإسرائيلي (إماتة الجسد الفلسطيني)، وما يسعى إليه (السيادة على دول المنطقة)، وكتب توفيق فياض عن صفتي الأنفة والكبرياء اللتين تحلّى بهما الفلسطيني وهو يعمل ويقاوم ويتعلّم ويحلم. تميّز توفيق فياض بقصصه الساحرة التي جعلت من الواقع شرفاً وحياة محلومة، وجعلت من الأفعال جمالاً تشيل بها سلوكيات الشخوص وانتباهاتهم لممارسات الإسرائيليين وخداعهم ومراوغاتهم وإغراءاتهم أيضاً، فقصص توفيق فياض واقعية سحرية، ولكنها مدهشة لأنّ عين توفيق فياض رأتها وهي تحوّم مثل الطيور في فضاء من مجاز ليس هو بالمجاز، وقد تجلّى هذا في قصص مجموعته (الشارع الأصفر)، ومجموعته (البهلول)، لقد شالت الأسطرة، بأفعالها الواقعية، حتى جعلت من (مجنون المخيم) حكيماً مدهشاً في القول والفعل في آن.

أما الروايات التي كتبها توفيق فياض، فكانت روايات قضايا لها علاقة بتهجير القرى وتدميرها، والاستيلاء على الأراضي وجعلها مستوطنات، وبالمجازر الوحشية لتخويف الناس، وبالسجون الكئيبة لبث الرعب في النفوس، وإماتة الأجساد وهدها.

ومسرحيات توفيق فياض، اتخذت مساقات أخرى غايتها نقد الظواهر الاجتماعية ذات الوجوه السود، ومنها الاستعلاء، والتعامل مع الأعداء، والسلبية، والادعاء، والانهزامية، والخوف الذي يقود إلى اليأس والإحباط.
وتوفيق فياض وظّف معرفته الكبيرة باللغة العبرية فترجم أعمالاً أدبية عدة، لعل أبرزها رواية “خربة خزعة” للكاتب يزهار سميلانسكي التي تتحدث عن تهجير أهالي قرية فلسطينية، هي خربة غزة في قطاع غزة، ووصف الكاتب لمشاهد التهجير عبر مناقلة بصرية ما بين الفلسطينيين المهجرين والقسوة التي طالتهم، وما بين الإسرائيليين الذين امتازوا بالاستيلاء والتنمر، وما نتج عن هذا التهجير من قتلى وجرحى ومخاوف وسلوكيات دامية.

توفيق فياض هو أحد أهم أعلام مدونة السرد الفلسطيني والعربي معا، ولعل روايته “778” التسجيلية هي أهم رواية تسجيلية عربية تقفت مسار تجربة فدائي فلسطيني (فوزي النمر) وبطولاته في خوض تجربة نضالية شديدة الأهمية والغنى طوال سنوات، نالت من الإسرائيليين الكثير من الفقد لجنودهم، وتدمير مؤسساتهم، وتوليد الرعب داخل المستوطنات الإسرائيلية من جهة، وداخل الأحياء الإسرائيلية في مدينة حيفا من جهة أخرى، حتى غدا (فوزي النمر) أسطورة نضالية فلسطينية، عجزت الاستخبارات الإسرائيلية عن الوصول إليه.

توفيق فياض يعكف اليوم على كتابة سيرته الذاتية والأدبية، وقد دفع بجزئها الأول إلى المطبعة، وفيها رصد لسنوات ما بعد 1948، ورصد لحال المدارس والتعليم، ورصد لأحوال المعيشة في القرى المحيطة بحيفا والممتدة شرقاً نحو مدينة جنين، ورصد لعلاقاته بأدباء الوطن المحتل (إميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم، راشد حسين، سالم جبران)، والبوح بأسرار على غاية من الأهمية عن هؤلاء الكتاب والشعراء وهم يطاردون جمالية النص الأدبي الذي يتحدث عن عشق الحياة والأرض والوطن في ظل الاحتلال الإسرائيلي الظلوم.

Hasanhamid55@yahoo.com