الفصحى وتعزيز الهوية الوطنية والتّحديات
نجوى صليبه
على مدار يومين، استضافت كلية الآداب الرابعة في القنيطرة فعاليات المؤتمر العلمي “اللغة الفصحى وأثرها في تعزيز الهوية الوطنية” الذي نظّمته جامعة دمشق بالتّعاون مع اتّحاد الكتّاب العرب والاتّحاد الوطني لطلبة سورية و”مؤسسة أرض الشّام”.
وفي كلمته، أكّد الدّكتور خليل يحيى مدير فرع كليات القنيطرة في جامعة دمشق أنّ الدّافع لعقد هذا المؤتمر هو وجود قاسم مشترك أفرزه الانتماء الوطني والقومي في مرحلة تلمس فيها تحديات تتطلّب تمكيننا المكوّن الأكثر أهميّة من عناصر هويتنا العربية عامة والوطنية بصورة خاصّة وهو اللغة التي من خلالها تتضّح طريقة تفكير الأمّة ويتجلّى وعي أبنائها، وبمفرداتها تتلخّص طبيعة العلاقات الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع، وبالأدب الذي تصوغ خيوطه اللغة يبرر الجانب النفسية قادرة والأوامر والنّواهي التي تسيطر عليها.
وتحدّث عميد كلية الآداب الرابعة بالقنيطرة الأستاذ الدّكتور محمد العبد الله في كلمته عن قدم اللغة العربية وسماتها وخصائصها من ألفاظ وتراكيب وصرف ونحو وأدب وخيال مع قدرة في التعبير عن مدارك العلم المختلفة، مضيفاً: “إنّها لغة بيان ولغة علم وفكر وإبداع، بواسطتها اتّصلت الأجيال العربية جيلاً فجيلاً في عصور متتالية، والجانب اللغوي جانب أساس في حياتنا، فهو مقوّم من أكثر مقومات حياتنا وكياننا أهمية، وهو الهوية والانتماء والحامل لثقافتنا ورسالتنا، واللغة العربية من حيث الأهمية والدّور الفاعل هي من أغنى لغات العالم.
وتحت عنوان “اللُّغة العربيّةُ وسؤال الهويّة”، قال الدّكتور محمد الحوراني رئيس اتّحاد الكتّاب العرب إنّ سؤال الهُويّة، فيما يخصّ اللُّغة العربيّة، هو سؤالٌ للتّفكير العقلانيّ القادر على النّهوض بواقعنا العربيّ المرّ، كما هو استنهاضٌ للهمم، وسعيٌ حثيثٌ للقضاء على التّخلُّف المحيط بنا في شتّى المجالات، مضيفاً: “وهو بهذا المعنى صياغة للبرامج والرّؤى الفاعلة بالارتقاء بأمّتنا إلى أنبل درجات الرّفعة والسّموّ، وهذا لا يتحقّق إلّا بإثبات الذَّات وبِناء الهُويّة القويّة القادرة على الصّمود في وجه التّحدّيات، وقد أثبت علماء اللُّغة واللّسانيّات على اختلاف انتماءاتهِم، أنّ المجتمعات بمختلف سياقاتها ومرجعيّاتها ومواجهتها؛ إمّا أن تنحطَّ بهجر لغتها الأُمّ وإضعافها، وإمّا أن تدفعها نحو التّقدّم والازدهار”.
كما تطرّق الحوراني إلى الحروب التي يخوضها الأعداء على لغتنا وثقافتنا، وإلى الكارثة الكبرى التي نواجهها والمتمثّلة في تيّاراتٍ تدعو إلى تعميم اللَّهجات الدّارجة في المناهج التَّعليميّة ووسائل الإعلامِ، في محاولةٍ لإضعاف اللُّغة العربيّة والنّيل منها، ولاسيما لدى النّاشئة، مؤكّداً أنّه على الرّغم من كلّ ذلك فإنّ هذه اللّغةَ تأبى إلّا الزّهو بشموخها وكبريائها، وأنّه آن الأوان للوقف صفّاً واحداً في وجه المخطَّطات التي تستهدف لغتنا وثقافتنا وتاريخنا، كما آن الأوان للعمل على استراتيجيّة ثقافيّةٍ ومعرفيّةٍ من شأنها المحافظة على لغتنا العربيَّة، وتعزّز حضورها في التّربية والتّعليم والإعلام، وهو الكفيل بالحفاظ على قوّة المجتمع، وتحصينه من محاولات الاختراق الثقافيّة الّتي تهدّد أمّتنا وهويّتنا، مضيفاً: “كما آن الأوان للعناية والاهتمام بلغتنا العربيّة، ووضع حدّ لحالة الرّدّة اللُّغويّة الَّتي نواجهها في كثيرٍ من مفاصل حياتنا، ثقافيّاً وإعلاميّاً وتربوِيّاً وتعليميّاً، وفي الأوساط المجتمعيّة كلّها، وتكثيف الجهود لوضع استراتيجيّةٍ حقيقيّةٍ قادرةٍ على استعادة ثقة أجيالنا بمكوّنات هويّتهم، وفي مقدّمتها اللُّغة العربيّة لأنّها أساس الهويّة والضّامن لها”.
ومن اتّحاد طلبة سورية، تحدّثت إسراء العبد الله عن أهميّة التّمسّك بالهوية واللغة، مستذكرة أهلنا الصّامدين في الجولان العربي السّوري المحتل الذين ما يزالون متمسّكين بأرضهم وهويتهم ولغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ومثلها أكّد باسل الدنيا مدير مجلس أمناء “مؤسسة أرض الشام” أنّ اللغة العربية هي وعاء هويتنا الوطنية وانتمائنا لسورية، وأنّ خير مثال على ذلك المواقف الوطنية لأهلنا في الجولان السوري المحتل الذين حافظوا على هويتهم من خلال تمسكهم باللغة العربية على الرّغم من إجراءات سلطات الاحتلال المختلفة والرّامية إلى تهويد الجولان المحتل، مشدداً على دور المؤسسات الثّقافية والتّعليمية والإعلامية في تعزيز اللغة العربية لأنّها شكل من أشكال المقاومة.
وشارك في هذا المؤتمر عدد من الباحثين في اللغة والأدب والاجتماع وتحدّثوا في محاور متنوّعة ومهمّة، فتحت عنوان “أثر المؤسسات الثّقافية والتّعليمية في تعزيز اللغة العربية”، تحدّث الأستاذ الدّكتور نبيل أبو عمشة عن أهمية النّحو العربي في تحديد هوية العربيّة، وقدّمت الدّكتورة سناء الرّيس نظرات في تجديد النّحو العربي، أمّا الدّكتورة منى داغستاني فتحدّثت عن اللغة العربية والبحث العلمي.
وفي اللغة العربية والفكر، تحدّث الأستاذ الدّكتور محمد العبد الله عن الهوية الوطنية والقومية المقاومة، وذهبت الدّكتورة رهام الشّريف إلى الخوض في غمار العلاقة بين اللغة العربية والعولمة، أمّا ورقة عمل الدّكتور حوران محمد سليمان فكانت بعنوان “اللغة العربية لغة الوحي”، في حين خصصت الدّكتورة ريما الدّياب ورقة عملها للازدواجية اللغوية ونشأتها التي تعود إلى عام 1902، وتعريفها الذي نختصره بأنّه الاستخدام المزدوج للعامية والفصحى، العامية في الحياة اليومية والفصحى في الحياة الرّسمية، أي مستويان لغويان للسان الواحد، عامي وفصيح، وتختلف اللغة بين العامية والفصحى في الجوانب الصّوتية والمعجمية والدّلالية، وتشكّل حالة لغوية تشير إلى الانقسام ما بين اللغة العليا أو الرّسمية المستخدمة في التّعليم واللغة المحكية في الحياة اليومية، ولكلّ لهجة أغراضها الخاصة، مرجعةً أسبابها إلى عوامل تاريخية واجتماعية ولغوية وتعليمية وتكنولوجية بالإضافة إلى التّقسيمات السّياسية، ومنوّهةً بأكثر مشكلات هذه الازدواجية أهمية وهي مشكلات تتعلّق بتعليم اللغة العربية للعرب والأجانب، وأخرى تتعلّق بالتّرجمة والتّعريب ووسائل الإعلام والحوار في الأدب.
وفي اليوم الثّاني، وتحت عنوان رئيس “جماليات اللغة العربية”، تحدّث الأستاذ الدّكتور عصام الكوسا عن جماليات التّنغيم، والدّكتورة سناء شهاب الدّين عن “اللغة العربية واللسانيات الحاسوبية”، وتحت عنوان “اللغة العربية بين الإعلام والرّقمية”، تناول الدّكتور أحمد علي محمد مضوع اللغة والفجوة الرّقمية، والأستاذ الدّكتور عيسى الشّماس عن دور الإعلام في تعزيز اللغة العربية، في حين أفرد الدّكتور جمال أبو سمرة ورقة عمله للحديث عن الجولان العربي السّوري في أدب الذّكاء الاصطناع، يقول: “يعدّ الذّكاء الاصطناعي فرعاً من فروع علوم الحاسب الآلي، وهو مصطلح يعكس طريقة عمل العقل البشري، لكنّه يتفوق بسرعته الكبيرة في المعالجة والإنجاز، ومع ذلك، فإنّ قدراته محدودة، حيث يركّز على مهام معينة مثل قيادة السّيارات، والبحث على الإنترنت، والتّعرّف على الوجه، وكتابة النّصوص”، موضّحاً بتحليل النّصوص المقدّمة حول الجولان العربي السّوري المحتلّ، ومبيّناً: “تعدّ النصوص الأدبية المتعلقة بالجولان تجسيداً حقيقياً للمعاناة والأمل الذي يعيشه سكان المنطقة تحت الاحتلال، ومن خلال هذه النصوص، نلمس تعبيرات فنية تتناول قضايا الهوية، والصّمود، والمقاومة، فالنّصوص ليست مجرّد سرد للأحداث، بل هي وسيلة لنقل المشاعر وتجسيد التجارب الحياتية للأفراد والجماعات، وفيما يأتي، سنستعرض نماذج أدبية مختلفة تتناول الجولان سنطلب من برنامج (Chat GPT) تأليفها، مستعرضين كيف تعكس هذه الأعمال التحديات التي يواجهها الشّعب السّوري، وسبل التّعبير عن الانتماء الوطني”.
ويضيف أبو سمرة: “تتزايد أهميّة الذّكاء الاصطناعي كأداةٍ فعّالة في تعزيز الوعي بالقضايا الوطنية وإعادة إحيائها، ومن بينها قضية الجولان”، ويلخّص هذا الدور في تحليل البيانات الضخمة وإنشاء محتوى أدبي وإبداعي والتّفاعل مع الجمهور والتّوثيق الرّقمي وتحسين الوصول إلى المعلومات وحملات التّوعية والتّعليم والتّثقيف وابتكار الأدب التّفاعلي.
وكما كلّ النّدوات المتخصصة باللغة العربية، شدد المشاركون على أهميتها وضرورة شحذ الهمم والأدوات لمجابهة “حروب اللغة” إن صحّ التّعبير، وفي الحقيقة المهمّة صعبة جدّاً، وبحاجة إلى خطط طويلة الأمد لا قصيرتها لمواجهة هذا الواقع المرير للغتنا العربية.