دراساتصحيفة البعث

عندما ينتقد بابا الفاتيكان جرائم الصهيونية

ريا خوري

التقت دعوة بابا الفاتيكان فرنسيس خورخي ماريو بيرجوليو، زعيم الكنيسة الكاثوليكية، التي يبلغ عدد أتباعها ملياراً وأربعمئة مليون نسمة، مع الدعوة التي قدّمتها جنوب إفريقيا في نهاية شهر كانون الأول 2023، وانضمت إليها العديد من الدول أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها الكيان الصهيوني بانتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية المبرمة عام 1948 في هجومها على قطاع غزة.

دعوة رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى تحقيق دولي في الإبادة الجماعية التي يرتكبها العدو الصهيوني في قطاع غزة ولبنان، مع العلم أنّه لا يمثل بهذه الدعوة المسيحيين في العالم فقط، بل هو يمثل الإنسانية جمعاء باعتباره يتماهى مع رسالة السيد المسيح في الإنسانية والمحبة والسلام ورفض الظلم والقهر والوحشية. هذا الموقف يساهم مساهمةً كبيرةً في تعزيز القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية التي تعطي الإنسان قيمته الحقيقية في الحياة، كما أنه يؤكِّد على ترجمة فكرة (وثيقة الأخوة الإنسانية) التي تسعى للعيش المشترك بسلام وأمان.

الجدير بالذكر أنَّ البابا فرانسيس كان قد تطرّق إلى عملية الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي، التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق أبناء الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة في كتاب كان قد ألّفه مؤخراً بعنوان “الأمل لا يخيب أبداً” قال فيه: “ما يحدث في قطاع غزة يحمل سمات إبادة جماعية، يجب درس ذلك بعناية شديدة لتحديد ما إذا كان الوضع الدموي القائم يتوافق مع التعريف التقني الذي صاغه الحقوقيون والقانونيون والمنظمات الدولية المختصة، وأنَّ ما يحدث في قطاع غزة فيه خصائص الإبادة الجماعية”.

كان ذلك من أكثر انتقاداته صراحةً حتى الآن لسلوك العدو الصهيوني في حربه المدمّرة المستمرة منذ أكثر من عام، مؤكداً على موقف دولة جنوب إفريقيا التي رفعت الدعوة على الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية في شهر كانون الأول الماضي، حيث أمر قضاة المحكمة في شهر كانون الثاني الكيان الصهيوني بضمان عدم قيام قواته بارتكاب أعمال إبادة جماعية.

من خلال المتابعة، نجد أنَّ البابا فرنسيس زعيم الكنيسة الكاثوليكية يحرص على عدم الانحياز إلى أي طرف في الصراعات الدولية، والتشديد على وقف التصعيد، لكنه كثّف في الآونة الأخيرة بشكلٍ واضح وصريح انتقاداته لسلوك العدو الصهيوني في حربه ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكان قد انتقد مقتل الأطفال والنساء في غارات صهيونية، كما استنكر بشدّة القصف الجوي الصهيوني ضد الشعب اللبناني ووصفها بأنها “تتجاوز النواميس والأخلاق”.

جميع القرائن والدلائل والمؤشرات تؤكد حدوث إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، لذلك هي تهمة مكتملة المواصفات والأركان والخصائص، وهو ما أكدته رانشيسكا ألبانيز المقرّرة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، وغيرها من كبار المسؤولين الأمميين، كما أنَّ المحكمة الجنائية الدولية فتحت تحقيقاً مستمراً بتلك العمليات الإجرامية، كما قامت بتشغيل رابط لتقديم تقارير ومعلومات ووثائق عن ارتكاب جرائم حرب، وجرائم إبادة جماعية، وجرائم تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية، وتعتبر جميعها انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني.

إن نظام روما الأساسي، وحسب المادة السادسة منه، يعرّف الإبادة الجماعية بأنها أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة دينية أو قومية أو إثنية أو عرقية بصفتها هذه، إهلاكاً كلياً أو جزئياً وقتل أفراد الجماعة، وإخضاعها عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً، وإلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة. وهذه الأعمال تشمل القتل أو التسبّب في أوضاع معيشية من شأنها أن تؤدي إلى الهلاك الفعلي كلياً أو جزئياً، وهو ما تمارسه قوات العدو الصهيوني يومياً في قطاع غزة على شكل عقاب جماعي. وهي جرائم ضد الإنسانية.

لم تنسَ البشرية عمليات الإبادة الجماعية التي جرت عبر التاريخ القديم والتاريخ الحديث، فما زالت الأجيال تتذكر أبشع العمليات الإجرامية التي قام بها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية، وعمليات الإبادة الجماعية في رواندا، عام 1994، والتي راح ضحيتها ثمانمئة ألف ضحية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجرت محاكمات طالت المرتكبين وحكم على بعضهم بالسجن المؤبد، ومات بعضهم في السجون.

إن جرائم الحروب الدموية البشعة ضد الإنسانية لا تسقط  مع مرور الوقت أو بالتقادم، ومرتكبوها لا يستفيدون من الحصانة مهما بلغت درجة حصانتهم، ومهما تكن مناصبهم، سواء كانوا  زعماء أو حكَّاماً دستوريين أو أفراداً موظفين أو أفراداً عاديين غير مسؤولين، وفقاً للمادتين الثالثة والرابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.