تحية إلى روح د. بثينة علي في الرواق
ملده شويكاني
الطائر الأبيض الذي يهيم بالطيران ويرفع رأسه نحو السماء، كان العمل الذي أهداه خريجو كلية الفنون الجميلة- قسم التصوير لروح أستاذتهم د. بثينة علي في المعرض الذي أقامته كلية الفنون الجميلة بالتعاون مع اتحاد الفنانين التشكيليين في صالة الرواق العربي بعنوان “تحية لروح الدكتورة بثينة علي”.
وتبدو مسحة حزن على عدد من اللوحات التي بُنيت على شيء من المشهدية التعبيرية لمضامين تتعلّق بالرحيل والانتظار والهجرة والأثر الذي يتركه الإنسان بعد الموت والطبيعة، فحفل بتناول الخريجين أفكاراً تتعلق بتفاصيل الحياة ونفذوها بمستوى جيد، ولاسيما بالتمازج اللوني المدروس وانعكاسه على الخلفية وبتقنية الكولاج تأثراً بالراحلة علي، التي انطلقت من مصطلح الفنّ المفاهيمي وخرجت من إطار اللوحة التقليدية، بتجسيد أعمالها التي دمجت بين السينوغرافيا المسرحية والتأثيرات البصرية، فأقامت العديد من المعارض في باريس وكندا والدول الأوروبية والعربية، إلى جانب عملها التدريسي في كلية الفنون الجميلة وبمشروع مدد لدعم الطلاب وخريجي الكلية.
وضمّ المعرض مشروعات تخرج لواحد وعشرين طالباً في قسم التصوير، وعبّر بعضهم عن الفكرة بصور وجوانب عدة من خلال سلسلة لوحات متعدّدة، مثل مشروع الطالبة هنا بنيان بعنوان “ستشرق”، مستخدمة الزيتي على القماش، وجسّدت فيها حالة الأنثى التي تعاني الوحدة بعد أن كانت حياتها مكتظة بالأشخاص والأحداث، فترتدي الثوب الأسود، وهي مطرقة حزينة جانب مائدة الطعام الخشبية المهترئة إيماءة إلى القدم وتقلبات الزمن، يقابلها الطير برمزية إلى انتظارها خبراً، بينما توحي تكوينات الأشخاص البعيدة في الخلفية بتداعيات شريط الذكريات، وتبدو هالة اللون الأصفر خلف الطير في اللوحة الثانية دلالة على التفاؤل بإشراق يوم جديد، وتكتمل الفكرة مع ضوء الشموع والستارة الحمراء، لتعبّر التفافة الأنثى أمام النافذة وهي تجلس على الكرسي وبجانبها كرسي فارغ في اللوحة الثالثة، عن حدوث أمر ما يوحي بنداء وحوار مع الآخر، ووظّفت الطالبة تدرجات اللون الأخضر على الستارة والنافذة كإشارة إلى تجدّد الحياة.
أما الطالبة مايا السمان فقدّمت مشروعها بعنوان “أليف” المتضمن معنى الألفة والمشاعر الإنسانية والوجدانية التي يعيشها الإنسان مع محيطه ويفتقدها مع الزمن برمزية الطيور المتمسّكة على الحبال السوداء، والهائمة بالطيران في الخلفية، وتظهر جمالية اللوحة بتقنيات دمج الألوان وإبراز مساحة الضوء، وتؤكد فكرتها باستخدامها العجينة اللونية ذاتها في اللوحة الثانية التي تتوسطها كرتونة التقويم اليومي “الروزنامة” مستخدمة ألوان الإكليريك على القماش.
أما الطالبة روز حلاوة فربطت بين حالة الاختناق النفسي والموت بالاتكاء على أسطورة المارد والزجاجة، بتصوير الأنثى داخل الوعاء الزجاجي تتطلع بخوف نحو الأعلى، في حين يقبع الهيكل العظمي في الوعاء الآخر، والملفت هو ثوبها الأحمر بدلالة لون الشغف بالحياة على الرغم من كلّ الأوضاع الخانقة التي تعيشها، باستخدامها مواد مختلفة على قماش.
وبأسلوب تجريدي، يتساءل الطالب شريف عربي بمشروعه “من أنا” عن الإنسان في ظلّ الصراعات الدائرة حوله، معتمداً على اللونين الأبيض والأسود مع مسحات صغيرة باللون الأصفر، تجسّد بعضها وجوهاً غريبة الشكل، ويقود الخط الأسود إلى انشراخات عميقة.
ويبدو مشروع رغد جليلاتي بعنوان “كركبة” ملفتاً ومثيراً للتساؤلات عن الكركبة الموجودة بالذات والأفكار وبالمكان وتأثيرها على الحياة، فأدراج الخزانة وقطعة القماش المتدلية والسجادة الملفوفة جانباً، كلها عناصر شغلت مكانها في أقسام اللوحة التي أولت فيها اهتماماً بالتناظر اللوني وإيحاءاته.
الهيكل العظمي استهوى سارة خير بيك بمشروعها بقايا، لكن بأسلوبها، إذ جعلت الهيكل العظمي للسمكة محور لوحاتها، موظفة التضاد بين اللونين الأبيض والأسود.
وفي زاوية أخرى، تناول فؤاد خطار فكرة الهجرة والاغتراب في مشروعه “يلهث”، فجسّد مجموعة من القوارب على عتمة المجهول بألوان الزيتي على القماش.
كما تطرقت أروى قاطوع بمشروعها “ويبقى الأثر” إلى الموت وغياب الجسد، لكن الأثر الذي يتركه الإنسان باقٍ، معتمدة على تقنية الكولاج بإدخال صفحات ورقية من كتاب باللغة الإنكليزية، وتقترب من فكرتها بفنية مباشرة بتجسيدها خزانة الأحذية التي تعجّ بأشكال وألوان منها، لتظهر مرور الزمن.
وما أضفى جمالية على المعرض مشروع نغم أحمد الذي استمدته من الطبيعة بعنوان “من وحي الطبيعة” فرسمت شكل شجرة عيد الميلاد بمشهد انطباعي غنيّ بالأشجار تتخلله تدرجات الأحمر التي لوّنت فيها الأشجار الخلفية، دلالة على الفرح المنشود والبدايات الجديدة.
وعقب الدكتور سائد سلوم الأستاذ في كلية الفنون الجميلة في حديثه مع “البعث” بأن د. بثينة علي كانت مثالاً للصداقة والرفقة في العمل التدريسي في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، فكانت الأخت الكريمة مع زملائها والمعلمة الأم الرؤوف مع طلابها، ليس بالكلية فقط، إنما من خلال مشروعها في “مؤسسة مدد”، فتعلق فيها الطلاب في الكلية وخارجها، ولاسيما عندما بدأت بمتابعة الطلاب بعد تخرجهم لبناء دور الشباب في الحركة التشكيلية، وتمتين علاقتهم بالمجتمع، وخاصة في مجال الأعمال التركيبية المعاصرة للمفاهيم الجمالية الجديدة، وها هم الطلاب يقدّمون نتاج عملهم في مشاريع التخرج لعام 2023-2024 عربون محبة وصداقة ووفاء لروحها.
وأشادت المهندسة مها محفوظ رئيسة فرع دمشق لاتحاد الفنانين التشكيليين بتأسيس د. علي طلابها في قسم التصوير وتدلّ على ذلك النتائج الجيدة لعلامات المشاريع المعروضة بالمعرض بأساليب مختلفة، منها الواقعي والسريالي والتجريدي والانطباعي، واستخدام تقنية الكولاج بطريقة تنمّ عن إبداع، بصورة عامة المعرض ككل اتسم بسوية جيدة والحضور الكبير يعكس محبة الراحلة وتقديرها.
وكان المعرض مناسبة أيضاً لمشروع التشابك بين طلاب كلية الفنون الجميلة وبين نقابة الفنون- فرع دمشق بالانتساب إلى نقابة الفنون الجميلة لتعزيز دور الشباب الفني.