الأرض تصغي والعالم لا يسمع
غالية خوجة
لكل حرف حكاية، ولكل صمت معنى، وهكذا، تتهاطل الحكايات من عيون الناس، وتظل قلوبهم تلهج بمحاوراتهم الداخلية لأنفسهم، لكنّ القارئ للأرواح يستطيع أن يفهمهم ولو لم يتكلموا، لأنّ الآثار الداخلية تنعكس على السيمياء الخارجية مهما أقنعوا أنفسهم بأنهم لا يصغون لضميرهم المبصر للحق.
وضمن مسارات الاغتراب في عالمنا المعاصر، تبدو الأرض وكأنها تريد أن تغادر مدارها أيضاً، وتبدو حيرتها واضحة وهي تسأل نفسها: هل أعود إلى الأجداد، أم أذهب إلى مستقبل قد يكون فيه الأحفاد أفضل؟ مللت من مشاهد المجازر اليومية التي يرتكبها المحتل المتوحش، وأشعر بأن أرواح العرب البريئة في فلسطين ولبنان وسورية وغيرها تطاردني، أشعر بأني لا أستطيع نصرة الحق، لأن الباطل طغى كما الظلم.
ما زالت الأرض تبكي، وأشجارها تتمنى مثل تربتها أن تصدّ القذائف والرصاص بصدرها كي لا تصيب هؤلاء الأبرياء، لكنها النيران تلتهم الأجساد والأرض معاً.
ثمة نجمة قريبة من مدار الأرض، سمعتْ ذاك الحوار، فغادرت مكانها الفضائي، ونزلت إلى الجثث وبقايا الأشلاء، واقتربت من رأس طفلة رضيعة كانت على قيد الحياة قبل القصف الأخير، هدهدت الرأس، وشُبّه لها بأن إحدى العينين فتحت نصْفَ جفنها، فوصل معنى الصمت الأبدي للنجمة، وبدأت الحروف تتهاطل من السماء نوراً محفوفاً بخضرة كاملة وحقّ كامل، وبدأت أصوات الشهداء تقترب من الحروف وتشكّل منها كلمات أزلية، مثل نحن شهداء، وأبرياء، وأصحاب حق، والقدس عاصمتنا الأبدية، وفلسطين عربية.
ما زالت النجمة تحزم الكلمات، والطفلة بعينين نصْف مغمضتين ونصْف مفتوحتين تحكي للعالم عن أرضها المحتلة، والأرض تحزم مدارها لتغادر الأرض.
وهناك، في عيون الناس، على الجانب الآخر من العالم، ما زالت مشاهد المجازر معلّقة، وقلوبهم تلهج بالحق، بينما ألسنة غالبيتهم فمسجونة بسراب الباطل، وبراثن الظلمات، وأوهام الحياة، ويتمنون لو رددوا مع المتنبي: “جنة بالذل لا أرضى بها، وجهنم بالعز أفخر منزلِ”.
إلاّ أن التاريخ لن ينسى ما يحدث، والزمن سيظل يجمع الكلمات النورانية، ويستعيد في لحظة مباغتة الحقّ الشامل، صافعاً الباطلَ المحتلّ، مطهّراً الأرض، موقناً بأن مدارها سيعيدها إلى جذورها، وجذوعها، وأوراقها النابتة بعيون كثيرة تشبه عيون تلك الطفلة الرضيعة التي ما زالت تهدهدها النجمة مع آلاف الأطفال، لعلهم لا يبكون، ويقولون: أريد أمي، أو لعلهم لا يسألونها: أين أمي؟ أين بيتنا؟ كيف اغتربنا فجأة؟ هل يعني أنني لن أرى أبي وأخوتي وأولاد الجيران إلى الأبد؟
الأرض تصغي، والناس لا تسمع، والعالم مغترب عن الأرض، والحجر والشجر والتراب يحاولون جميعهم أن يفتدوا الأبرياء، وأن يكون قصْف المجرم المحتلّ في صدرهم لا في قلب الفلسطينيين، لكنّ القذائف الوحشية ما زالت تتوالى، وما كان فوق الأرض صار في باطنها، والأرض تودّ لو تفكّ مدارها وتأتي إلى الشهداء، لكنها النجمة تهدهد المزيد من الأطفال، بعد كل قصْف، النجمة تهدهد الأطفال وهي تسمعهم يسألونها: أين أمي وعائلتي وبيتي ووطني؟
القصف الصهيوني الغزير يصيب مدار الأرض وفصولها، ويقتل البشر، ويحرق الشجر، ويدمّر حضارتنا العربية والحجر، القصف يصيب النجمةَ أيضاً، فتصبح طفلةً رضيعة بعينين نصْف مفتوحتين، تسأل: أين أمي السماء؟ أين أطفال هذه الأرض؟ أين البشر؟ أيها العالم: أين منظماتكم الدولية التي تدّعي نصرتها للطفولة والمرأة والحق والأوطان؟
مع كل قصْفٍ وقصْف تتحول الأحرف الضوئية إلى كلمات، تشكّلها أرواح الشهداء التي انضمتْ إليها روح الأرض والنجوم، تشكّلها جملاً أبدية تتهاطل بغزارة أزلية: “فلسطين كانت عربية”، “فلسطين ما زالت عربية”، “فلسطين ستبقى عربية”، “فلسطين عربية”