دراساتصحيفة البعث

ترامب أنموذجاً للفاشية الجديدة

عناية ناصر

دخلت كلمة “الأزمة المتعدّدة” لوصف الطريقة التي تتفاقم بها الأزمات حيّز الاستخدام مؤخراً في العديد من المجالات المختلفة مع بعضها البعض، والتي تتقارب بدءاً من الجغرافيا السياسية والاقتصاد إلى المناخ والوباء. ورغم أن ترامب والترامبية متجذران بعمق في التاريخ الأمريكي، إلا أنهما يشكلان أيضاً جانباً من جوانب العصر الناشئ الذي يُشار إليه الآن على نطاق واسع باسم الأزمة العالمية المتعدّدة، حيث شكلت الأزمة المتعدّدة العديد من الظروف التي عزّزت صعود الترامبية.

يمكن فهم ترامب والترامبية في سياق الأزمة المتعدّدة من خلال خطابه أمام المؤتمر الوطني الجمهوري لعام 2024، حيث قال: “نعاني من أزمة تضخم تجعل الحياة غير قابلة للتحمّل، كما نواجه أزمة الهجرة غير الشرعية، والتي أدّت إلى انتشار البؤس والجريمة والفقر والمرض والدمار في المجتمعات في مختلف أنحاء البلاد بطريقة لم يسبق أن رآها أحد من قبل. ثم هناك أزمة دولية، فالحرب مستعرة الآن في أوروبا والشرق الأوسط، ويلوح شبح الصراع في سماء تايوان وكوريا والفلبين وكل أنحاء آسيا، وكوكبنا يتأرجح على شفا حرب عالمية ثالثة”.

يشبه وصف ترامب للعالم مرآة مشوّهة تعكس الواقع، هو واقع الأزمات المتعدّدة، ورغم أن تفسيراته ومقترحاته مغلوطة، إلا أن التهديدات المرعبة تشكل واقعاً في عصر الأزمات المتعدّدة.

لقد كان التضخم في الواقع سبباً في تدمير دخول الأسر العاملة والأسر ذات الدخل المنخفض، والتضخم الأخير ليس سوى أحد مظاهر الاقتصاد العالمي الخارج عن السيطرة والذي كان يسحق الناس منذ الكساد الكبير في عام 2007. وفي الواقع، طُرد الملايين من الناس من ديارهم في مختلف أنحاء العالم بسبب الحرب والعولمة وتغيّر المناخ. لقد كان البؤس والفقر والمرض والدمار الذي حلّ بالمجتمعات يحدث بالفعل، ليس نتيجة للهجرة، بل نتيجة لتفكيك البرامج العامة التي تعمل على الحدّ من الفقر والمرض والدمار. والواقع أن الحرب مستعرة في أوروبا والشرق الأوسط، ويخيّم شبح الصراع المتنامي فوق تايوان وكوريا والفلبين وكلّ أنحاء آسيا. والواقع أن كوكب الأرض يتأرجح على شفا الحرب العالمية الثالثة، وهذا يعني بالفعل “الإبادة”، وهذه هي حقيقة الأزمة المتعدّدة.

إن مزاعم ترامب بأنه وحده قادر على حلّ المشكلات التي يصفها قد تكون مضحكة لو لم تكن خطيرة للغاية، لكن الواقع الحقيقي مخيف مثل الواقع الذي يصوره، وليس من المستغرب أن يعاني الملايين من الناس العاديين من الغضب والخوف والألم، فهم يتفاعلون مع الواقع.

لقد اتسمت الحقبة التي سبقت الأزمة المتعدّدة، والتي امتدت تقريباً من سقوط الاتحاد السوفييتي إلى الركود العظيم، بالهيمنة العالمية أحادية الجانب من جانب الولايات المتحدة، كما اتسمت بالعولمة النيوليبرالية التي فرضت قوة الشركات غير المنظمة على كلّ بلد ومؤسّسة، وشهدت الانتخابات في معظم البلدان تحديد القوة السياسية، مهما كانت تلك الانتخابات غير متكافئة، وشهدت الحكومات والشركات على الأقل مصارعة خفية ضد تهديد تغيّر المناخ.

لقد تحوّل هذا النظام العالمي المستقر نسبياً، وإن كان غير عادل إلى أزمة متعدّدة، فقد حلّت الحروب المضاعفة، وصعود صراع القوى العظمى، وتراجع التعاون الدولي داخل وخارج الأمم المتحدة محلّ الهيمنة الأمريكية أحادية القطبية، كما تميّز هذا النظام بتفتت الاقتصاد العالمي وصراع القوى العظمى للسيطرة على ما لا يزال شبكات اقتصادية عالمية، وأصبحت حماية المناخ الدولية خدعة شفافة، وتنكر القوى السياسية الكبرى، بما في ذلك الزعيم القادم لأقوى دولة في العالم، حقيقة تغيّر المناخ.

لقد شهدت الأعوام العشرة الماضية صعود حركات في عشرات البلدان تشبه الفاشية الكلاسيكية التي ظهرت في الفترة 1920-1945، وتتجلّى هذه الحركات في تحطيم المؤسّسات الديمقراطية، واحتقار الدساتير والقوانين، واستخدام العنف لأغراض سياسية، وإلقاء اللوم على الأقليات العرقية والإثنية والسياسية وغيرها،  والدكتاتورية الاستبدادية، ومجموعة متنوعة من السمات ذات الصلة. ولإدراج العديد من مظاهر هذه الظاهرة، وليس فقط أولئك الذين يعلنون أنفسهم فاشيين، يمكن الإشارة إليها باسم “الفاشية الجديدة”.

يعتبر دونالد ترامب أنموذجاً لهذه الفاشية الجديدة، حيث تزامن صعوده إلى السلطة مع صعود الفاشيين في جميع أنحاء العالم. وفي أوروبا، تشمل هذه الأحزاب حزب “إخوان إيطاليا” بقيادة جورجيا ميلوني، وحزب “القانون والعدالة” في بولندا، وحزب “فيدس” بقيادة فيكتور أوربان في المجر، والائتلافات الحاكمة في السويد وفنلندا، والتجمع الوطني بقيادة مارين لوبان، وحزب “الحرية” بقيادة خيرت فيلدرز، وحزب” البديل من أجل ألمانيا”، من بين آخرين.

إن الفاشية الجديدة، وخاصة الترامبية هي وليدة الأزمة المتعدّدة، ورغم أن الكساد الكبير لم يكن سبب الأزمة المتعدّدة، إلا أنه قد يكون بمثابة مؤشر ملائم لظهورها، وكما لاحظ الباحث والناشط الفلبيني والدون بيلو، فإن “تراكم الحركات والأحزاب الفاشية لم يبدأ إلا في عام 2011، أي بعد الكساد الكبير”. وقد ساعدت الأزمة المتعدّدة في تمكين صعود ترامب وغيره من الزعماء الفاشيين الجدد، وهم بدورهم عكسوا، وكرروا، بل وحتى دمجوا العديد من سمات الأزمة المتعدّدة، حيث تجسّد الأزمة المتعدّدة انهيار التعاون الدولي وتصاعد الصراعات الوطنية.

إن الأزمة المتعدّدة هي فترة من تراجع الهيمنة الأمريكية، والصراع بين القوى العظمى والحرب، والشعار الرئيسي الذي يرفعه ترامب “جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” هو استجابة مباشرة لهذا الواقع.

تتميّز الأزمة المتعدّدة بالصراع الناشئ بين القوة الصاعدة للصين والقوة المتراجعة نسبياً للولايات المتحدة، حيث كانت شيطنة الصين والهجوم على التنمية الصينية موضوعاً مركزياً لنهج ترامب في الشؤون الدولية، وهو ما كرّره الرئيس بايدن خلال “فترة ولاية ترامب”.

ولهذا تمثل الأزمة المتعدّدة انتقالاً من التكامل الاقتصادي العالمي الذي تفرضه العولمة إلى معارك القوى العظمى للسيطرة على الشبكات الاقتصادية العالمية، وتمثل القومية الاقتصادية المتصارعة التي يتبناها ترامب انعكاساً وتكثيفاً لهذا الاتجاه.

على الرغم من مزاعم ترامب بمعالجة التهديدات التي يواجهها الناس، إلا أن وجوده في السلطة لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة المتعدّدة، كما ستؤدي الزيادات الغريبة في الإنفاق العسكري، المصمّمة لتنفيذ خيال الهيمنة العالمية الأمريكية المتجدّدة، بدلاً من ذلك، إلى سباقات تسلح نووية وتقليدية مدمرة، وسوف يؤدي أسلوب ترامب في الاستفزاز، وعدم القدرة على التنبؤ المتعمّد، والحماقة الجامحة إلى تكثيف الصراع، والتحولات الغريبة في التحالفات، والفوضى المتفاقمة عمداً والحروب، وسوف تعمل سياساته في مجال الطاقة على زيادة الكارثة المناخية، وستنتج هذه الأزمة المتعدّدة المتفاقمة حلقة تغذية مرتدة ذاتية التضخيم من شأنها أن تزيد من الخوف والغضب اللذين يشكلان المصادر والموارد للترامبية.