دراساتصحيفة البعث

الغرب وأوكرانيا.. هزيمة فكرية وتنظيمية وسياسية

هيفاء علي

شنّت الولايات المتحدة، وأعضاء مجموعة السبع، وحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، بتهور حرباً ضد روسيا في أوكرانيا، لا يمكن الفوز بها، فكيف يمكن لقادة الدول الأكثر ثراءً، والأكثر تطوراً، أن يقعوا بهذا الغباء في الفخ الذي نُصب لهم؟ وكيف يمكن تفسير استمرارهم في الغرق وإلحاق الهزيمة بالغرب بأكمله؟.

ومع تدهور الوضع وتقدّم القوات الروسية في كلّ مكان، لا توجد علامة حقيقية على أن الغرب يعود أخيراً إلى الواقع في فهمه، ومن المحتمل جداً أنه لن يتعلّم شيئاً، وسيستمر في العيش في واقعه البديل المبنيّ حتى يتمّ إخراجه بالقوة.

رغم ذلك، لا يتوقف القادة الغربيون ووسائل إعلامهم عن ترديد الشيء نفسه: “بوتين لا يستطيع الفوز، وروسيا تعاني من خسائر فادحة، وعلينا إعادة بناء أوكرانيا، وبوتين يخاف من الناتو”.

زيادة على ذلك، لا تزال مؤتمرات قمة حلف شمال الأطلسي تُعقد بطبيعة الحال، ولكنها حتى وقت قريب كانت تدور حول عمليات نشر قوات حفظ السلام، وعمليات مكافحة التمرد في أفغانستان، والتعاقب الذي لا نهاية له للأعضاء الجدد ومبادرات الشراكة.

حتى الآن لم يكن هناك ضرورة لاتخاذ قرار أمني أساسي في الحياة السياسية لأي زعيم حالي لدولة تابعة لحلف شمال الأطلسي، أو الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر خطير للغاية بحسب المراقبين، لأن الأزمة الأمنية أمر معقد للغاية وتنطوي على سلسلة كاملة من المستويات، من السياسية إلى العسكرية/التكتيكية، والمثال الوحيد المشابه هو أزمة كوسوفو في عام 1999، عندما توقف حلف شمال الأطلسي الأصغر حجماً عن العمل فعلياً بعد الأسبوع الأول، وكاد ينهار بالكامل.

وفي حالة أوكرانيا، فإن حلف شمال الأطلسي ليس لديه إستراتيجية في التعامل مع أوكرانيا، ولا خطة عملياتية حقيقية، بل كل ما لديه هو سلسلة من المبادرات المخصّصة، والتي تلتصق ببعضها البعض بطموحات غامضة لا علاقة لها بالحياة الحقيقية، وهذا بدوره يرجع إلى عدم وجود أي دولة من دول الناتو في وضع أفضل.

القادة الغربيون لا يملكون أي إستراتيجية ولا يفهمون حقاً ما هي الإستراتيجية، وما لديهم هو عادة ثابتة تتمثل في ابتكار أفكار ذكية تولد الدعاية منفصلة عن بعضها البعض، ولكن جميعها تبدو جيدة في تلك اللحظة.  بشكل عام، فهي تعكس “المنطق” التالي: القيام بشيء يذلّ روسيا. كحدوث معجزة مثل تغيير الحكومة في موسكو ونهاية الحرب. هذا هو كل “التخطيط الاستراتيجي” الذي يستطيع الغرب القيام به.

على مدار عشرين عاماً، كانت العناصر المكونة المهمّة للحكومات الغربية تطمح إلى إزاحة بوتين من السلطة، وتشكيل حكومة “موالية للغرب” في موسكو بطريقة أو بأخرى. ومن وقت لآخر، يتوصلون إلى مبادرات غير مترابطة مثل العقوبات الاقتصادية الكيدية، والتي يعتقدون أنها قادرة على تحريك الأحداث في هذا الاتجاه، ولكن في أغلب الأحيان يكون الأمر مجرد أمل، يغذيه الاعتقاد بأنه لا يمكن لأي زعيم “مناهض للغرب” أن يمثل شعبه على الإطلاق، وبالتالي فإن ذلك لن يدوم طويلاً.

ولكن فشل الغرب، الذي خلط بين التطلعات الغامضة والإستراتيجية الحقيقية، في فهم ما يحاول الروس القيام به، وتعامل مع كل نكسة روسية، أو نكسة مزعومة، باعتبارها خطوة على الطريق إلى النصر دون النظر إلى الصورة الأكبر، فمنذ القرن التاسع عشر، وخاصة في البلدان الأنغلوسكسونية، تأرجحت الروح الليبرالية بين النفور والازدراء للجيش في الأوقات العادية، والمطالبات باستخدامه في أوقات الأزمات، أو عندما يتعيّن تطبيق المعايير الليبرالية في مكان ما.

لقد أدّى انتشار العقلية الليبرالية في دول مثل فرنسا، التي كانت تفتخر دائماً بقوتها العسكرية، إلى إنتاج طبقة سياسية وإعلامية أوروبية غير قادرة إلى حدّ كبير على فهم الأمور العسكرية. أما الليبراليون الأمريكيون فيتأرجحون بين الخوف من المؤسّسة العسكرية، والاقتباسات التي لا نهاية لها لتحذيرات كاتب خطابات أيزنهاور بشأن المجمع الصناعي العسكري، والمطالبة باستخدام الجيش لفرض معاييرهم.

وعليه، من المستحيل أن يفهم مجتمع نشأ على التسليم في الوقت المناسب أهمية الخدمات اللوجستية، وطبيعة حرب الاستنزاف التي يشنّها الروس.

وبالنظر إلى الخريطة يمكن رؤية أن القوات الأوكرانية تقاتل عند نهاية خطوط إمداد طويلة جداً، وخاصة بالنسبة للمعدات والذخائر الغربية، في حين أن الروس لا يتجاوز عددهم بضع مئات كيلومترات على الأكثر من حدودها.

يتمّ قياس استهلاك الوقود للمركبات المدرعة الثقيلة بالغالون لكل ميل، وعلى الرغم من إمكانية إيصالها إلى منطقة العمليات بالقطار أو الناقل (الذي له مشاكله الخاصة)، إلا أنه يستهلك كميات مخيفة من الوقود، وكلها يجب أن تكون آمنة. وتمّ جلبها، بشكل خطير وبتكلفة كبيرة، إلى منطقة العمليات، كما أنها تتعطل أيضاً، مما يتطلّب مسارات ومحركات جديدة وإمدادات لا نهاية لها من الذخائر، والتي يجب توجيهها جميعاً إلى الأمام. كما لا يتمّ نقل دبابات ليوبارد إلى منطقة القتال فحسب، بل يجب إعادتها إلى بولندا لإصلاحها في حالة تلفها، وكل جانب من جوانب العمليات العسكرية تقريباً يتطلب طاقة كهربائية حتى عمليات الطائرات بدون طيار.

وقد عرف الروس ذلك بالطبع، واستهدفوا أنظمة توليد وتوزيع الطاقة، والجسور وتقاطعات السكك الحديدية، ومواقع تخزين الذخائر والخدمات اللوجستية، وتمركزات القوات ومناطق التدريب، لكنهم لا يستولون على مساحات كبيرة من الأراضي بتوجهات مدرعة جريئة، فبفضل التكنولوجيا الصاروخية التي يمتلكونها، والتي ظلّ الغرب يتجاهلها ويقلّل من أهميتها، أصبح بوسعهم الوصول إلى أي مدينة في العالم الغربي، ولن تتمكن أي دولة غربية من الرد. وبطبيعة الحال، فإن الروس، الذين يفهمون هذه الأمور، يدركون أنهم لا يحتاجون إلى استخدام هذه الصواريخ، فالنفوذ النفسي الذي يتمتعون به من مجرد امتلاك هذه الصواريخ سوف يؤدي المهمة على أكمل وجه. لقد منحهم تراثهم السوفييتي والجيش الكبير الذي احتفظوا به وعياً بكيفية تنفيذ العمليات واسعة النطاق على المستويين السياسي والاستراتيجي، حتى منذ أن تمّ الاستيلاء عليها من قبل الناتو.

وبهذا الشأن ألّف المؤرخ وشهيد المقاومة الفرنسي مارك بلوخ، الذي قاتل في معركة فرنسا عام 1940، كتاباً عنها، لم يُنشر إلا بعد وفاته، بعد الحرب، بعنوان «الهزيمة الغريبة»، حاول فيه شرح ما حدث، وكان استنتاجه المركزي هو أن الفشل كان فكرياً وتنظيمياً وسياسياً، حيث استخدم الألمان أسلوباً أكثر حداثة في الحرب لم يتوقعه الفرنسيون ولم يتمكنوا من التعامل معه. لقد أثبت الزمن صحة هذا الاستنتاج، فقد كانت التكتيكات الألمانية مبتكرة بالتأكيد، وشملت وحدات مدرعة سريعة وعميقة الاختراق وتعاوناً وثيقاً مع الطائرات، لكنها كانت أيضاً محفوفة بالمخاطر للغاية، وتطلّبت الكثير من الحظ للنجاح.

إن هزيمة الغرب -التي لم يتمّ الاعتراف بها حتى الآن- هي هزيمة فكرية وتنظيمية وسياسية في آن واحد، ويبدو أن الطبقات الحاكمة في الغرب ليس لديها أي فكرة عما حدث لها ولماذا، وليس لديها أي فكرة عما يمكن أن يتبعه.