ثقافةصحيفة البعث

القلم.. “يشربُ ظلمةً، يلفظُ نوراً”

وجيه حسن

عشراتُ الأقلام، كتب بها أصحابها بحبر التّشجيع، لزيارة معرض الكتاب، نظراً لأهميّة القراءة بحياة القرّاء المثابرين من الجِنسَين..

وبكلّ مناسبة هناك مدائح تبدأ ولا تنتهي لهذا الحبر الذي ما يفتأ يتكلّم، يحاور، ينبض، ألم يقل الكاتب الأندلسيّ الأريب “أبو حفص بن برد الأكبر” يوماً: (ما أعظمَ شأنَ القلم، يشربُ ظلمةً، ويلفظُ نوراً).

أقول: في مثل هاتِهِ التّظاهرات المَعارِضيّة المهمّة للكتاب -التي تشبه مناسبة العيد في تزاحم الناس وانشغالاتهم- لكن بصمتٍ مهيب، إذْ أنت في حضرة الكتب، فإنّ العيون ما تفتأ تلوب باحثة عن عناوين بعينها، أو عن آخر ما لفظته مطابع العصر لهذا المؤلّف المعروف، أو ذاك.

لا أحد من الزوّار يتكلّم بحضرة الكتب، (خيرة الجلساء، وأعزّ الأصدقاء)، فصمتُ الكلمات هنا، وهاتِهِ الأسطر الخرْساء، لعمري هُما أبلغُ من أيّة خطبة منبريّة رنّانة طنّانة.

لقد قِيل الكثير عن تلك المتعة القلبيّة، حين يعثر المرء على كتاب عتيق، كانت قد فُقدَت طبعاته من المكتبات، ولدى بائعي الكتب القديمة.

قيل الكثير عن ذاك التّجوال للبحث عن كتابٍ صدر بالثلاثينات أو الأربعينات من قرنٍ مضى، هو كتاب لم يُطبَع منه سوى طبعة يتيمة.. ورقُهُ مائِلٌ لِلصّفرة كوجه ليمونة، أو كقرص عبّاد الشّمس.. ورقُهُ ليس باذِخاً، ولا طريّاً، يشبه إلى حدّ بعيد أوراق شجرة خريفيّة كابية.

أعود إلى الطفل الذي كنتُه قبل أربعين خمسين سنة، هو لا يشبهني اليوم بتّاً.. كان يظنّ يومها حرف “الميم” عروة قميصه، وحرف “العين” فماً لأفعى، أمّا حرف “الألف”، فكان يظنّه عصا عجوز ضرير.

أمّا “الورق الثّلجي” -بزعمه- فأشبهُ ما يكون بحقل حراثة.. وكان الطفل أيامئذٍ، يحرث الورق الأبيض بحبرٍ أسود.. وعندما طوّف به العمر، عَرَفَ بحدسه الطفوليّ، أنّ أجمل الخطوط هي خطوطه هو، لا خطوط النّسّاخين، ولا الخطّاطين، فهو لا يعرف أنواع الخطوط، لا خط الرّقعة، ولا النّسخ، ولا الكوفي، ولا..

أذكر يومها، أنّه نادى بالحمّام بأعلى صوته:

  • أنا الخطّاط الأوّل.. سأخطّ كتاباً وأعرضه في عين الشّمس.. سأخطّه بيدي اليُمنى، يدي ابنة جسدي.. يدي التي هي وسادتي، ببعض الأحايين، وبِأغلبها.. باليُمنى أتناول كتاباً، وكأس الماء البارد، ولقمة العيش الهنيّة..

ثمّ ألم يقل سبحانه بكتابه العزيز “اقرأ باسم ربّك الذي خلق”؟!

عليه، أليست القراءة نوعاً من الكتابة، وسابقة عليها؟

وقال الطفلُ يومها:

-(الكتابُ لا يُؤْكَلُ بالفم، بل يُمضَغُ بوساطة الرّأس، أيْ بالعقل).

من ذاك اليوم، صار رأسُه فماً أكولاً نَهِماً.. قرأ كتاباً عن “عبد الرّحمن بن معاوية”، الملقّب بـ”صقر قريش”، وعن أندلس العرب.. من ساعتها، نامت الأندلس في رأسه.. وكثرت ببيت أبويه الكتبُ بمختلف الفيتامينات والمضامين.. أبوه لم يكن يقرأ، أو يكتب.. أمُّه لا تفكّ الحرف، ومع هذا، فقد امتلأ بيت العائلة بثمرات الكتب، تعدّدت العناوين، غصّت الأرْفف.. الأغلفة بألوان قوس قزح.

بتلك الأيام، صار للطفل مكتبته الخاصّة.. أبطال القصص والحكايات، عاشوا معه بالبيت.. صاروا ضيوفاً مُرحَّباً بهم، على اختلاف جنسيّاتهم ومعتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والفلسفية.

الأدباء الكبار، صاروا أصدقاءه الأليفين، والنقّاد الأفذاذ، كانوا يقرّعونه إذا ما تأخّر يوماً عن طقس القراءة، ووقت المطالعة.

يكبر الطفل، تفتح له الأيّام الرّحيبات باب السّفر، قصْد طلب الرّزق.. ويسافر.

وحيدة تبقى المكتبة دون قارئ نَهِم.. تغطّيها الأمّ “الأميّة” بأغطية الرّوح، وبِملاءات بيضاء نظيفة، خوفاً من عوامل الطقس، فهي أمانة ولدها، ومن مقتنياته العزيزات.

عندما عاد من مُغتربه بعد انقضاء عدد باهِظ من الأشهر، كان الغبار المعتدي على الملاءات وعلى الكتب أكثرَ بكثيرٍ من الورق الذي تُرِك زمناً بلا تصفّح.

الطفل وصل إلى الخمسين، حصّالتُه من سنوات الاغتراب، أضحت مملوءةً بِعملةٍ زمنيّةٍ مريرة..

صار لديه أكثر من مُغترَب ومنفى.. بكلّ مُغترَب، كان له مكتبة، وبكلّ منفى، كان لديه عددٌ غفيرٌ من الكتب.. بل هو نفسه، أضحى كاتباً يُشارُ إليه بالبَنان.. أمّا حرفة الكتابة، وعادة القراءة، فهما الأثيرتان لقلبه، وكان يردّد دائماً قول الكاتب الإنكليزي “فرانسيس بيكون”: (القراءة تصنعُ الشّخص المتكامل)!.

وكان يتذكّر بإعجابٍ قول الكاتب المصري “عبّاس العقّاد”: (أحبّ الكتب، إنَّ حياةً واحدةً لا تكفي)، فقد كان يدرك بحدسه اليقظ، أنّ القراءة قد تتيح له، أنْ يسرق من الزّمن عمراً إضافيّاً.. وكثيراً ما كان الطفل يردّد: “إنَّ عالَم الإنسان يكبر، يتّسع، حين يبدأ القراءة، فحين يقرأ يعرف”، و(المعرفة أينما تكون تُولّد القوّة).

أمّا الكتابة -بِزعمه- فهي حديقة ظامئة دوماً، فقد التهمت عمره وحياته بآن..

وعندما وصل إلى الخمسين وأكثر، وكان السّفر وقتها لمّا يزل ديدنَه، أضحى مضطرباً، فالمكتبة الضّخمة التي شيّدها ببيت العائلة، أضحت قابلة للضّياع والبعثرة.. والأسئلة الضّاغطة التي كانت تؤرّقه:

  • مَنْ يضمن أنني لست على سفر الليلة، أو غداً، أو بعد غد؟
  • أين تذهب هذه الكتب حين أغادر؟ خاصّة أنّ والديَّ الرّاعِيَيْن لها، قد ارتحلا عن هذه الفانِية؟
  • أتبقى وحيدة هنا، كما بقيت كتب حياتي هناك؟
  • ماذا أحمل منها على عَجَل؟
  • ماذا يبقى منها في المغترب؟

الكتب تغترب كما البشر، تُغادر، تُمْحَى، وتموت.. تدهمُها الشّيخوخة، تتوكّأ على عكاكيز الزّمن.

وعندما يبلغ الطفل السّبعين أو الثمانين، يتعتّق الكهل فيه، يغدو أبطأ من سلحفاة.. القراءة تصبح متعته المتبقّية من رصيد العمر.. وتكون النظّارتان الطبيّتان أكثرَ وفاءً من عَنَتِ الأصدقاء، وقسوة ابتعادهم..

حينها، وعندها، يستطيع القراءة بوساطتهما، ورؤية عصافير الصّباح، وهي تلتقط رِزقها..

رجلٌ طاعنٌ، أبيضُ تماماً.. يتجوّل بمعرض الكتاب، ليستعيد الطفل الذي كانَهُ، يوم اشترى بأوّل حياته القرائيّة كتاب “صقر قريش”، الذي نامت الأندلس العربية يومها برأسه.

رجلٌ هرمٌ تماماً، يبحث في بيادر الكتب عن “صقر قريش”، عن “طه حسين”، عن كتاب “الفضيلة”، عن وجوه زهير، وأبي تمّام، والبحتري، والجاحظ، والبردّوني، وعن سلامة بن جندل السّعدي القائل:

“إنّ الشّباب الّذي مَجْدٌ عواقبه فيهِ نلذُّ ولا لذّاتِ للشّيبِ”.

طاعنٌ، التهم بشبابه آلاف الكتب، حفظ بصدره مغازيَها وحكاياتِها، بينما أبواه “المثقّفان”، كانا بحياتهما يصونان كتبه، يجيدان تهجئة كُتَلِ الغيم ليس إلّا.

كان بكلّ تهويماته، يتدثّر بغلافين كَجناحَين.. عيناه تسرحان نحو الأندلس وصنعاء ودمشق والقاهرة وبغداد.. ينامُ إلى الأبد.. لكنْ (تحت رأسه كتاب).