بعد خسارة القمح والقطن.. هل تتدارك الحكومة سياسات تهميش القطاعات الإنتاجية؟
علي عبود
لم نفاجأ أن يستمر مسلسل خسارة محاصيلنا الزراعية الواحد بعد الآخر، بعدما تخلّت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2005 عن نهج الاقتصاد الإنتاجي وعنوانه “الاعتماد على الذات” إلى نهج الاقتصاد الريعي وعنوانه “الاعتماد على الاستيراد”.
وبعد أن خسرنا بفعل هذا التحوّل معظم المحاصيل الزراعية التي كنّا ننتجها كالحبوب والقطن، والشوندر والذرة.. إلخ، ونُصدّر الكثير منها، ها نحن بدأنا نخسر تدريجياً محصول الحمضيات، والسؤال: هل ستتدارك الحكومة الجديدة سياسات تهميش القطاعات الإنتاجية، وخاصة ما يتعلّق منها بالزراعة قبل أن تصل الكارثة إلى حدّها الأقصى بنتائجها المدمّرة للاقتصاد الوطني، والتي لن تتوقف طالما استمر رفع أسعار مستلزمات الإنتاج، وخاصة المحروقات والأسمدة؟
لماذا الإصرار على “تخسير الفلاح”؟
ولا يمكن الزعم بأن أزمة تسويق الحمضيات مستجدة، فهي تعود لتسعينيات القرن الماضي، ولكن الجديد فيها ارتفاع تكاليفها عاماً بعد عام، وكأنّ الجهات الحكومية مصرّة على تخسير الفلاح، وإرغامه على التحوّل إلى زراعات جديدة لم تكن تخطر على باله من قبل كالمحاصيل الاستوائية.
ومع بدايات موسم قطاف الحمضيات لهذا الموسم، تكرّرت مجدداً صعوبات التسويق، وها هو رئيس لجنة تصدير الحمضيات، بسام علي، يكشف بتاريخ 4/ 11/ 2024 عن وجود عوائق تتعلق بسيناريو تسويق الحمضيات، وأنه “لا بدّ من إيجاد حلّ جذري لها باعتبارها تتكرّر في كل عام مما يعرّض المزارع والمصدّر لخسائر”، والسؤال: لماذا لم تُذلل الجهات الحكومية كوزارات الاقتصاد والمالية والتجارة الداخلية والنقل… إلخ، الصعوبات التي تعرقل تصدير الحمضيات السورية بأسعار منافسة لمثيلاتها في الأسواق العراقية والخليجية؟
ما الرقم الفعلي لإنتاجنا؟
لطالما كانت لدينا مشكلة في الأرقام المعلنة، وخاصة إذا كانت هزيلة أو مخجلة، وهذا هو الحال في تقديرات إنتاجنا من الحمضيات، وخاصة بعد أن تدهور إنتاجنا منها إلى ما دون المليون، وزارة الزراعة تقول تارة بأن الإنتاج بحدود 650 ألف طن، وتارة أخرى بين 360- 400 ألف طن، في حين يؤكد رئيس لجنة الحمضيات “أن أرقام وزارة الزراعة تقول بوجود نحو 360 إلى 400 ألف طن من الحمضيات، علماً أنه على أرض الواقع لا يتجاوز الإنتاج 250 ألف طن”، وفي حال صحة الرقم “الواقعي”، فهذا مؤشر على أننا على طريق خسارة الاكتفاء الذاتي من الحمضيات، كما حصل في المحصول الرئيسي للقمح الذي يشكل المادة الأساسية ليس للحبز فقط وإنما لمعظم السلع الغذائية الأساسية التي يشكل القمح المكوّن الأساسي في صناعتها!
وسواء كان إنتاجنا الفعلي من الحمضيات 650 ألف طن أو 250 ألف طن، فإننا أمام حقيقة لا جدال فيها أننا بدأنا نخسر الحمضيات، فقد كان إنتاجنا منها يتجاوز المليون طن في السنوات السابقة!
المشكلة بالتصدير وبارتفاع التكلفة!
ومع أن حلّ أزمة فائض الحمضيات منذ تسعينيات القرن كان دائماً في تصديرها، فإنه ما من حكومة ولا غرف التجارة عملت جدياً على فتح أسواق خارجية لتسويقها، ولا تزال أسعارها أعلى من مثيلاتها المصدّرة إلى العراق والخليج وأي دول أخرى، ولم توفر أي حكومة التسهيلات والإعفاءات التي تتيح تصدير الحمضيات بلا عقبات وبأسعار تنافسية، وبالتالي لماذا سنفاجأ بعزوف عدد كبير من الفلاحين باستبدال الحمضيات بزراعات استوائية تلاقي إقبالاً في الأسواق الداخلية والخارجية؟
ولم تكتفِ الجهات الحكومية على مدى العقود الثلاثة الماضية برفض تقديم المحفزات والتسهيلات لصادرات الحمضيات، بل قامت في السنوات الخمس الماضية بزيادة أسعار مستلزمات زراعتها من أسمدة وأدوية إلى مستويات غير مسبوقة، وبات سعر طن السماد العضوي لا يقلّ عن 10 ملايين ليرة، ما اضطر الفلاح إما إلى تضمين محصوله كاملاً أو قلع أشجار الحمضيات واستبدالها بزراعات استوائية!
الحلول سهلة!
ويوحي استمرار العقبات التي تتكرّر مع ذروة موسم الحمضيات وكأنّها معضلات عصيّة على الحلّ، وهذا غير صحيح، وكان بإمكان أيّ حكومة سابقة حلها في جلسة واحدة لمجلس الوزراء، وبالتالي تحقيق ربح للفلاحين من خلال تصدير محصولهم من جهة، وتأمين موارد من القطع الأجنبي من جهة أخرى، بالإضافة إلى تشغيل ورشات الفرز والتوضيب، لكن استمرت الأزمة عاماً بعد عام، إلى أن انعكست بتراجع الإنتاج بما يتجاوز النصف، وهو مؤشر إلى بدايات خسارتنا لمحصول جديد، لا يمكن إعادته إلى ما كان عليه مع تزايد عدد الفلاحين الذين استبدلوا الحمضيات بالاستوائيات.
المشكلة الأولى التي تواجه تصدير الحمضيات هي أجور نقل الشاحنات المبردة، فارتفاع أجور الشاحنة إلى 3500 دولار بدلاً من 1200 دولار يُفقد الحمضيات السورية قدرتها على المنافسة.
المشكلة الثانية ارتفاع فواتير منشآت الفرز والتوضيب التي تعاني من تأمين مادة المازوت، ووفق ما قاله رئيس لجنة التصدير فإن فاتورة أيّ منشأة فرز وتوضيب تصل إلى 30 مليوناً شهرياً أي 300 مليون على مدار 10 أشهر يضاف إليها مبلغ 150 مليون ليرة ثمن مازوت و50 مليون ليرة ضرائب ورسوماً… إلخ.
كما نرى، يُمكن للحكومة أن تخفض أجور نقل الشاحنات المبرّدة وسعر المازوت اللازم لمنشآت الفرز، وإعفاء صادرات الحمضيات من الرسوم والضرائب، والأهم العمل على استئجار باخرة مخصّصة لنقل الحمصيات بحاويات مبردة إلى روسيا وغيرها من الدول الصديقة… إلخ.
نعم، الحلول سهلة لو كانت الإرادة متوفرة، ولو فعلتها أيّ حكومة سابقة لما بدأنا نخسر الحمضيات تدريجياً بعد أن خسرنا القطن والحبوب والشوندر… إلخ.
ارتفعت التكاليف فتقزّم الإنتاج!
مهما برّرت الجهات الحكومية تراجع إنتاج المحاصيل الأساسية، كالحبوب والقطن والحمضيات، فإن السبب الفعلي لـ “تقزّم” الإنتاج يعود إلى ارتفاع تكاليف مستلزمات زراعة المحاصيل “بذار وأسمدة ومبيدات ومحروقات وأجور فلاحة ونقل… إلخ” من جهة، وتسعيرها المجحف من جهة أخرى، والتي تتسيّب جميعها بخسائر فادحة للفلاح اضطرته لهجر الزراعات التقليدية والإستراتيجية إلى زراعات بديلة أقل كلفة وأسرع مردوداً وأكثر ربحية.
نعم، خسرنا القمح بعد أن تراجعت إنتاجيته من 4 أو 5 ملايين طن سنوياً إلى أقل من 700 ألف طن، وهي أقل من احتياجات سورية التي لا تقلّ سنوياً عن 1.2 مليون طن، وخسرنا القطن بتراجع إنتاجه من مليون إلى أقل من 20 ألف طن سنوياً، في حين تبلغ حاجة سورية 200 ألف طن لدوران عجلات إنتاج معامل الغزل والنسيج والألبسة، وها نحن نخسر تدريجياً الحمضيات بعد تدهور إنتاجها من 1.2 مليون طن إلى أقل من 450 ألف طن سنوياً، وهي أقل من حاجة سورية لو كانت الأجور كافية!