دراساتصحيفة البعث

“جو” من الإبادة الجماعية إلى الدمار الشامل

 سمر سامي السمارة

لم يتردد الرئيس بايدن قط في الموافقة على إرسال شحنات ضخمة من الأسلحة إلى “إسرائيل” خلال أكثر من 13 شهراً من المجازر الجماعية الممنهجة، والتجويع المتعمد للمدنيين الفلسطينيين في غزة، وقد أكسبه الدور الحاسم الذي اضطلع فيه لقب “جو الإبادة الجماعية”.

قد يبدو هذا اللقب حاداً، لكنه حقيقاً، وبالرغم من عدم تقديم بايدن للعدالة كونه شريكاً رئيسياً في الجرائم المروعة ضد الإنسانية المستمرة في غزة، فإن هذا اللقب سيظل سارياً،ـ وسيدينه المؤرخون النزيهون باعتباره ممكّناً مباشراً للإبادة الجماعية.

لكن يبدو أن بايدن بات مؤهلاً للحصول على لقب آخر، وهو “جو الدمار الشامل”، لكن على النقيض من لقب “جو الإبادة الجماعية”، الذي أثبتت الأحداث بالفعل أنه مناسب، فإن لقب جو الدمار الشامل استباقي، وهو أمر لا مفر منه، لأنه إذا انتهى الحال بالآثار المترتبة على سياساته الخارجية إلى أن تصبح عوامل رئيسية في الفناء النووي، فلن يكون المؤرخون موجودين لتقييم مسؤوليته عن الدمار الشامل، الذي يُعرَّف بأنه “تدمير كل أشكال الحياة أو كل أشكال الحياة البشرية”.

من المؤكد أن هذا التعريف لا يبالغ كثيراً في تقدير ما يقوله العلماء عن النتائج المترتبة على تبادل الأسلحة النووية، فقد اكتشف الباحثون أن “الشتاء النووي” سوف يبدأ بسرعة في مختلف أنحاء العالم، ليحجب ضوء الشمس ويقضي تماماً على الزراعة، بمعدل بقاء بشري ربما يبلغ 1 أو 2 في المائة.

في الواقع، ضاعف بايدن من جرائمه من خلال إعطاء أولوية أكبر بكثير لهوس واشنطن بالحرب الباردة، مقارنةً بالتفاوض من أجل السلام، أو التخفيف من المخاطر المتصاعدة للحرب النووية، التي ستؤدي حرفياً للدمار الشامل، وعلى الرغم من الاعتقاد أن تجنب الحرب النووية الحرارية بين القوتين النوويتين العظميين في العالم، روسيا والولايات المتحدة، سيكون على رأس قائمة مهام الرئيس، لكن هذا  لم يكن الحال مع جو بايدن منذ أن سحب كرسياً لأول مرة في المكتب البيضاوي. في الواقع، فعل بايدن الكثير خلال السنوات الأولى من هذا العقد لتأجيج المخاوف الواقعية من الحرب النووية، وعلى الرغم من انسحاب سلفه المباشر دونالد ترامب، من معاهدتي القوى النووية متوسطة المدى، والأجواء المفتوحة الحيويتين للحد من انتشار الأسلحة، لم يفعل بايدن شيئاً لإعادة العمل بهما. وعلى نحو مماثل، ألغى ترامب الاتفاق النووي الإيراني الذي تم التفاوض عليه خلال إدارة أوباما، وتركه بايدن ميتاً.

بدلاً من الوفاء بوعد حملته الانتخابية لعام 2020 بتبني سياسة أمريكية بعدم البدء باستخدام الأسلحة النووية، وقع بايدن قبل عامين على وثيقة سياسة “مراجعة الوضع النووي” التي تعلن صراحةً العكس، وفي العام الماضي، بتعبير ملطف أسمته “التحديث”، أنفقت الإدارة الأمريكية 51 مليار دولار – أي أكثر من كل الدول الأخرى المسلحة نووياً مجتمعة – لتحديث ترسانتها النووية والحفاظ عليها، واكتسبت زخماً هائلاً في عملية من المقرر أن تستمر لعقود قادمة.

قبل وبعد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أظهر بايدن افتقاراً واضحاً للاهتمام بالدبلوماسية الفعلية لمنع الحرب أو إنهائها، وفي مقال نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” قبل ثلاثة أيام من بدء العملية العسكرية، كتب البروفيسور جيفري ساكس، أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة كولومبيا الأميركية، إنه على الرغم أن بايدن زعم أن الولايات المتحدة منفتحة على الدبلوماسية مع روسيا، لكن واقع الحال أظهر بوضوح أنه فيما يتعلق بالقضية التي أكدت عليها موسكو أكثر من غيرها – وهي توسع الناتو – لم تكن هناك دبلوماسية أمريكية على الإطلاق، ذلك على الرغم من مطالبة روسيا الولايات المتحدة التخلي عن توسع حلف شمال الأطلسي ليشمل أوكرانيا.

في الوقت الذي كان ينبغي فيه السعي إلى السلام وإنهاء الحرب في أوكرانيا، ضاعف بايدن من جرائمه من خلال إعطاء أولوية أعلى بكثير لهوس واشنطن بالحرب الباردة مقارنة بالتفاوض من أجل السلام، أو التخفيف من المخاطر المتصاعدة للحرب النووية.

يبدو أن بايدن منذ البداية لم يعترف بأن بقاء البشرية أصبح معرضاً لخطر أكبر بسبب الحروب التي تديرها الولايات المتحدة، ففي خطابه الأول بعد العملية العسكرية، حرص بايدن في خطابه للحديث عن الصراع في أوكرانيا دون أن يقول كلمة واحدة عن الخطر المتزايد الذي قد يؤدي إلى استخدام الأسلحة النووية، وخلال الأشهر الثلاثة التالية، نشر البيت الأبيض أكثر من 60 بياناً رئاسياً ووثيقة عن الحرب في أوكرانيا، دون أي ذكر للأسلحة النووية أو مخاطر الحرب النووية، ذلك على الرغم من أن العديد من الخبراء قدروا تلك المخاطر بأنها الأسوأ منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.

بالرغم من الخطر المحدق، حيث يؤكد كل مراقب عن كثب أن تجنب حرب نووية حرارية بين القوتين النوويتين العظميين في العالم، روسيا والولايات المتحدة، سيكون على رأس قائمة مهام الرئيس، لكن، مع تلميحات خافتة، عرضية إلى عدم الرغبة في صدام عسكري أمريكي مع روسيا، قالت إدارة بايدن خلال الأشهر الثلاثة والثلاثين الماضية إنها لا تريد تجاوز خطوطها الحمراء، ثم شرعت في فعل ذلك مراراً وتكراراً.

بينما كان يشكو من تصعيد بايدن المتهور، لخص مستشار الأمن القومي السابق للرئيس ترامب جون بولتون، العملية على شبكة “سي إن إن” مؤخراً قائلاً: “لقد كان نقاشاً عامّاً طويلاً تلو الآخر، حول تزويد الأوكرانيين بصواريخ باليستية، أولاً كانت الإجابة لا، ثم كان هناك نقاش، ثم كانت هناك نعم، ثم هل يجب تزويد الأوكرانيين بدبابات أبرامز؟ أولاً كانت الإجابة لا، ثم كان هناك نقاش طويل، ثم كانت الإجابة نعم، بعد ذلك، هل يجب علينا تزويد الأوكرانيين بطائرات إف-16؟ أولاً كانت الإجابة لا، ثم كان هناك نقاش طويل، وكانت الإجابة نعم. الآن، هل يمكن السماح للأوكرانيين باستخدام صواريخ باليستية داخل روسيا؟ بعد نقاش طويل، الآن كانت الإجابة نعم”.

سواء تم الإعلان عن ذلك أم لم يتم، فإن ضبط النفس “المفترض” الذي أظهره بايدن أثناء حرب أوكرانيا قد تلاشى بشكل مطرد، مع تصعيد أكثر خطورة حل مكانه.

يؤكد مختصون أن الضوء الأخضر الأخير الذي منحه بايدن لأوكرانيا لإطلاق صواريخ أطول مدى داخل الأراضي الروسية، هو قفزة أخرى نحو الحرب النووية. وبحسب تحليل نشره معهد “كوينس” مؤخراً، فقد  تزايدت المخاطر التصعيدية بشكل مطرد وفي اتجاه ينذر بخطر كبير، فقد جعلت هذه الخطوة التصعيدية غير المبررة روسيا وحلف شمال الأطلسي أقرب خطوة إلى المواجهة المباشرة، وأصبحت نافذة تجنب سوء التقدير الكارثي الآن أضيق بكثير.

ومثله كمثل بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكين وكذلك المشجعين من الديمقراطيين والجمهوريين لحرب أوكرانيا على تلة الكابيتول، لا يذكر بولتون أن استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر دعماً قوياً بين الأوكرانيين للمفاوضات لوقف الحرب.

أفاد معهد “غالوب” مؤخراً،  بأن 52% من الأوكرانيين يرغبون في رؤية بلادهم تتفاوض على إنهاء الحرب في أقرب وقت ممكن، مقارنة بـ 38% فقط يقولون يجب على بلادهم الاستمرار في القتال.

واصل بايدن وغيره من مؤيدي الحرب الازدراء بإرادة الأوكرانيين  المتعلقة بتسوية تفاوضية، باعتبارها استسلاماً وتكيفاً مع العدوان. بدلاً من ذلك، يحرص كبار المسؤولين في الإدارة وخبراء الحرب في سلك الصحافة على الترويج لشجاعتهم من خلال الإصرار على أن الأوكرانيين والروس يجب أن يستمروا في القتل والموت.

وتستمر النخب في واشنطن في التظاهر بأنها مدافعة شجاعة عن الحرية مع التصعيد العسكري في أوكرانيا، حيث مات مئات الآلاف بالفعل، وفي الوقت نفسه، تتزايد مخاطر الحرب النووية.

في الأسبوع الماضي، خفض بوتين عتبة الضربة النووية رداً على مجموعة أوسع من الهجمات التقليدية، حيث أعلنت موسكو أن أوكرانيا أطلقت صواريخ “أتاكمز” الأمريكية الصنع داخل الأراضي الروسية، مصيفةً أن روسيا حذرت الغرب منذ أشهر من أنه إذا سمحت واشنطن لأوكرانيا بإطلاق صواريخ أمريكية وبريطانية وفرنسية في عمق روسيا، فإن موسكو ستعتبر أعضاء الناتو هؤلاء متورطين بشكل مباشر في الحرب في أوكرانيا.