النظام النقدي العالمي الجديد بين العولمة والجيوسياسة
عناية ناصر
بدأ النظام الاقتصادي العالمي يخضع لتحوّل عميق بعد الحرب الروسية الأوكرانية في 24 شباط 2022، وفرض الغرب عقوبات اقتصادية على روسيا رداً على ذلك. لم يتغيّر هيكل الاقتصاد العالمي فحسب، بل تغيّر أيضاً النظام النقدي ككل. حتى قبل جائحة كوفيد-19، كان النظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة يغذي عملية العولمة المفرطة، لكن هذه العولمة المفرطة ساهمت إلى حدّ كبير في الحفاظ على هذا النظام العالمي أحادي القطب، والذي ينبع في المقام الأول من الترابط بين العولمة والنظام العالمي.
لعب النظام العالمي أحادي القطب والعولمة المفرطة دوراً محورياً في تحديد النظام النقدي العالمي، حيث تولى الدولار الأمريكي القيادة في التجارة العالمية باعتباره العملة الاحتياطية الأساسية. وبحلول عام 2000، كان أكثر من 70% من احتياطيات النقد الأجنبي في الولايات المتحدة بالدولار الأمريكي، وأدّت هيمنته على التجارة الدولية إلى اعتماد المصدّرين والمستوردين بشكل متزايد على الاقتراض المقوم بالدولار. وعلى هذا الأساس، تمّ توظيف الدولار الأمريكي، باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، لتعزيز المصالح الأمريكية. وبالتالي، عزّزت العولمة المفرطة موقف الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي.
وفي هذا السياق، يمكن وصف الهيمنة الواضحة للدولار الأمريكي في كلّ من التجارة الدولية واحتياطيات النقد الأجنبي العالمية بأنها عولمة العملة، لكن العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا أثرت على الهيمنة العالمية للدولار الأمريكي، ففي بداية الحرب في أوكرانيا، كان خمس احتياطيات النقد الأجنبي لدى روسيا بالدولار، وكان معظمها في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان، والتي تعمل الآن، إلى جانب دول غربية أخرى، معاً لعزل موسكو عن النظام المالي العالمي.
وهنا من المهمّ إدراك أن هيمنة الدولار الأمريكي شهدت تقلبات على مدى نصف القرن الماضي، فعلى سبيل المثال، بينما كانت حصة الدولار من احتياطيات العملات العالمية 80% في عام 1970، انخفضت بحلول عام 1980 إلى 58%، وبحلول عام 1990 إلى 47%. ومع ذلك، بحلول عام 2000، انتعشت إلى 70%، ومنذ ذلك الحين، انخفضت حصة الدولار الأمريكي في احتياطيات العملات العالمية مرة أخرى، وبحلول عام 2020 وصلت إلى 59%.
والجديرُ بالذكر أن هذا الانخفاض لم يصاحبه مكاسب كبيرة للعملات الاحتياطية التقليدية مثل اليورو والين والجنيه الإسترليني. وبدلاً من ذلك، كان التحوّل نحو العملات الاحتياطية غير التقليدية، مثل الدولار الأسترالي، والدولار الكندي، والرنمينبي الصيني، والوون الكوري الجنوبي، والدولار السنغافوري، وعملات دول الشمال الأوروبي.
مع بداية العملية الروسية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، دخلت عملية العولمة مرحلة المواجهة، حيث انقسمت دول العالم إلى ثلاث مجموعات: تلك التي تدعم العقوبات الغربية، وتلك التي تدعم روسيا، والدول المحايدة. ونتيجة لذلك، بدأ النظام العالمي أحادي القطب يتحوّل إلى نظام عالمي متعدّد الأقطاب، وهذا لا يمكن إلا أن يؤثر على النظام النقدي العالمي الذي نشأ في ظلّ العولمة المفرطة، عندما وقف العامل الجيوسياسي في طريق العولمة النقدية.
إن الجغرافيا السياسية للعملة، حيث تحدّد العوامل الجيوسياسية بشكل متزايد كلاً من العملات في التجارة الدولية، وتشكيل احتياطيات النقد الأجنبي، ليست ظاهرة جديدة، حيث لعبت الدوافع الجيوسياسية بعد الحرب العالمية الأولى، دوراً مهماً في اختيار العملات الدولية لاحتياطيات النقد الأجنبي. وبينما يظلّ العامل الجيوسياسي في عصر العولمة النقدية، إلا أنه لا يهيمن على النظام، ويترتب على ذلك أن العولمة النقدية والجغرافيا السياسية للعملة لا تستبعد بعضها البعض على الإطلاق، بل تكمل بعضها البعض. وفي الوقت نفسه، في فترات تاريخية معينة، كقاعدة عامة، يسود أحدهما: إما العولمة النقدية أو الجغرافيا السياسية للعملة.
ومن المهمّ أيضاً تسليط الضوء على أن مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية آخذة في التراجع، ليس فقط بسبب العوامل الجيوسياسية، بل وأيضاً بسبب السياسة المالية الأمريكية، التي أدّت إلى تقلص الحاجة إلى الدولار الأمريكي لدى البنوك المركزية والتجارية في الصين وهونغ كونغ وتايلاند.
إن التحول الجيوسياسي بعيداً عن الدولار الأميركي في المعاملات التجارية من شأنه أن يقلّل من دوره كعملة احتياطية، وإن كان هذا الدور لا يمكن تقليصه إلى الصفر من حيث المبدأ. وفي سياق حالة عدم اليقين الكبيرة المحيطة بالعديد من جوانب المشهد الجيوسياسي الحديث، والتفتّت الجيوسياسي للمخاطر الناجمة عن العقوبات الغربية على روسيا، كان هناك تراكم ملحوظ للذهب كأصل احتياطي بديل، وزيادة في استخدام العملات المختلفة في التجارة الدولية.
وبالنسبة لليورو، على الرغم من كونه ثاني أكبر عملة احتياطية من حيث حجم التوزيع العالمي، إلا أنه لا يمكن أن يحلّ محل الدولار الأمريكي تماماً في الاقتصاد العالمي. وعلى الرغم من أنه يمثل 21٪ من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية منذ عام 2023، إلا أن اليورو ليس موثوقاً به كأصل احتياطي عالمي، حيث إن المشاكل البنيوية والسياسية في الاتحاد الأوروبي، وخاصة الافتقار إلى سياسة مالية منسقة بين الدول الأعضاء، تقوّض استقراره وجاذبيته كبديل للدولار الأمريكي.
في عام 2023، دعت كلّ من روسيا والصين الخاضعتين للعقوبات الغربية إلى إنشاء نظام نقدي عالمي متعدّد الأقطاب. ومع ذلك، يبدو أن احتمالات الانتقال في الأمد القريب من هيمنة الدولار الأمريكي إلى عملة احتياطية عالمية بديلة غير واقعية.
تسعى مجموعة “البريكس بلس” التي تضمّ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى إيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة، إلى لعب دور مهمّ في تحدي هيمنة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية. ولعلّ أحد الجوانب الرئيسية لهذه الإستراتيجية هو التحول نحو إجراء تجارة النفط والغاز بالعملات الوطنية.
ونتيجة لذلك، تمكّنت هذه البلدان من زيادة حصة التجارة التي تتمّ بينها إلى 65٪، فقد عزّز نظام البترودولار، الذي ظهر في السبعينيات لتقييم النفط بالدولار، بشكل كبير، من مكانة الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية. ومع ذلك، وبسبب العوامل المذكورة أعلاه، مثل العقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، بدأت العديد من البلدان في البحث عن بدائل للبترودولار. وقد ساهمت العلاقات المتنامية في مجال الطاقة بين السعودية والصين في استبدال البترودولار بالبترو يوان، مع عقود تجارة النفط طويلة الأجل المقومة باليوان.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من البلدان النامية أعربت عن رغبتها في وجود بديل للدولار الأمريكي قبل فترة طويلة من الحرب الروسية الأوكرانية، وقد ازدادت هذه الرغبة قوة بعد أن فرض الغرب عقوبات على روسيا، بما في ذلك قطع العديد من بنوكها عن نظام “سويفت” وتجميد أصولها الدولية البالغة 300 مليار دولار.
لقد ساهم الدور المتنامي للصين في التجارة العالمية في صعود اليوان كعملة عالمية، على الرغم من وجود أسباب موضوعية تجعل العديد من البلدان متردّدة في استخدامه كعملة احتياطية. وفي سياق متصل تعتزم بلدان مجموعة “البريكس” إنشاء عملة احتياطية جديدة مدعومة بسلّة من عملاتها الوطنية، مع إمكانية دعم الذهب بالإضافة إلى ذلك. ومن المتوقع أن تعمل هذه المبادرة على تسريع عملية إزالة الدولرة، والحدّ من الاعتماد العالمي على الدولار، لكن ونظراً للطبيعة غير المحسومة للعديد من القضايا المؤسسية والتنظيمية والفنية، فإن مجموعة “البريكس” لا تزال بعيدة عن حلّ قضية إدخال عملة احتياطية جديدة.
إن الدفع نحو إزالة الدولرة سيكون له عواقب وخيمة على كلّ من الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي، وقد تزداد الضغوط التضخمية على الاقتصاد الأمريكي، وقد يضعف موقف الولايات المتحدة في المؤسّسات المالية الدولية، في حين قد تعمل البلدان النامية على خفض ديونها الدولارية، والحصول على قدر أكبر من الاستقلال المالي. ورغم أنه من المرجّح أن يواصل الدولار الأمريكي من هيمنته العالمية، ويحتفظ بدوره كعملة احتياطية رئيسية في العالم في الأمدين القريب والمتوسط، إلا أنه من غير المقبول على الإطلاق تجاهل التعزيز التدريجي لعامل الجغرافيا السياسية للعملة. ولذلك يجب التأكيد على أن العلاقة بين العملات المشفرة والجيوسياسية تستحق الدراسة المستقلة، وكذلك الجوانب الجيوسياسية للعملات الرقمية للبنوك المركزية.