دراساتصحيفة البعث

سلخ اللواء.. جريمة لن تسقط بالتقادم

د. معن منيف سليمان

تمرّ اليوم (29 تشرين الثاني) الذكرى الخامسة والثمانون على سلب لواء إسكندرون العربي السوري عام 1939، بعد تزوير الحقائق والوقائع بموجب اتفاق ثلاثي بين تركيا والاحتلالين الفرنسي والبريطاني، آنذاك، جرى كنوعٍ من الرشوة مقابل وقوف تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وسيبقى اللواء ماثلاً في ذاكرة الأجيال حتى عودته إلى الوطن الأم سورية، وهو حتماً سيعود مهما طال الزمن، ولن يسقط بالتقادم ما دام هناك وراءه مطالب.

تبلغ مساحة اللواء 4800 كيلو متر مربع، يطلّ على خليجي إسكندرون والسويدية في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر المتوسط، ويتوسّط شريطه الساحلي رأس الخنزير الذي يفصل بين الخليجين المذكورين، وأهم مدنه أنطاكية وإسكندرونة والريحانية والسويدية وأرسوز.

واللواء ذو طبيعة جبلية، وأكبر جباله أربعة: جبال الأمانوس وجبل الأقرع وجبل موسى وجبل النفاخ، وبين هذه الجبال يقع سهل العمق. أما أهم أنهاره فهي: نهر العاصي الذي يصبّ في خيد السويدية، ونهر عفرين ونهر الأسود اللذان يصبان في بحيرات سهل العمق.

كانت منطقة إسكندرون تابعة لولاية حلب في مرحلة الاحتلال العثماني، مشكلة مرفأها على البحر؛ وعاصرت إطلاق الجمهورية السورية الأولى. في عام 1938 قامت فرنسا بخطوة غير مسبوقة واستفزازية إذ أعادت منح اللواء حكماً ذاتياً مع بقائه مرتبطاً من ناحية شكلية بالجمهورية السورية، ثم أعادت إلغاء هذا الرباط الشكلي. وفي العام التالي، 1939، أشرفت الإدارة الفرنسية على استفتاء حول الانضمام إلى تركيا شكك العرب بنتائجه خصوصاً أن الأتراك تلاعبوا بالأصوات لصالحهم. وانسحبت فرنسا بشكل نهائي من اللواء، في حين دخلته قوات تركية، وقامت بضمّه وإعلانه جزءاً من الجمهورية التركية تحت اسم “هاتاي”؛ وهو ما يعدّ مخالفة لصك الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدبة بالحفاظ على أراضي الدولة المنتدب عليها.. كانت مؤامرة حيكت بين فرنسا وتركيا، ضمنت بموجبها فرنسا دخول تركيا إلى صف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

وهكذا أصبح اللواء يشكل الولاية 63 من الجمهورية التركية، ولم تتضمن هذه الاتفاقية أي نصّ يحفظ لأكثر من 130 ألف عربي بقوا في اللواء حقوقهم اللغوية والثقافية، على النحو الذي نصّت عليه المادة السابعة من اتفاقية أنقرة لعام 1921 بالنسبة لأتراك اللواء. ثم ابتدأت سياسة تتريك اللواء وتهجير سكانه الأصليين إلى بقية الوطن السوري، حيث سرقت كلّ أراضي السوريين الزراعية في تلك المنطقة دون أن تدفع تركيا أموالاً للمتضررين، ثم قامت تركيا بتغيير كافة الأسماء من العربية وهي اللغة الأصلية إلى التركية وهي لغة الدولة المحتلة، وظلّ هذا الأمر مصدراً للتوتر الشديد في العلاقات بين تركيا وسورية طيلة سبعة عقود وإلى يومنا هذا.

ولم تعترف الحكومة السورية بضمّ اللواء إلى تركيا استناداً إلى المادة الرابعة من صك الانتداب الذي يحرم على الدولة المنتدبة التنازل عن أي جزء من الأراضي المنتدبة عليها، ولا يزال عدم الاعتراف قائماً حتى اليوم.

كان الإجراء الفرنسي بإعطاء اللواء إلى تركيا مخالفاً لصك الانتداب نفسه، حيث نصّت المادة الرابعة من صك الانتداب على إلزام الدولة المنتدبة باحترام وحدة البلاد الموكلة إليها والحفاظ على سلامة أراضيها، وهو ما لم يتقيّد به الفرنسيون. قامت فرنسا بغضّ النظر عن دخول عشرات الآلاف من الأتراك إلى اللواء بغرض الاستفتاء، حيث أملت بأن يساهم ذلك في دخول تركيا إلى جانب الحلفاء في الحرب على ألمانيا النازية، كما قامت تركيا بنشر جيشها داخل اللواء وطرد معظم سكانه من العرب والأرمن.

إن لواء إسكندرون عربي سوري وهذا ما تثبته الوثائق التاريخية، ففي العصر العثماني كان اللواء سنجقاً تابعاً لولاية حلب، وقد احتوت مراسلات الشريف حسين مع مكماهون في عام 1915 على إشارات واضحة بتبعية المناطق الواقعة جنوب جبال طوروس إلى الدولة العربية الموعودة. ومع بدء الاحتلال الفرنسي لسورية ولبنان تبع اللواء ولاية حلب، وكان لواء إسكندرون في اتفاقية “سايكس- بيكو” داخل المنطقة الزرقاء التابعة للانتداب الفرنسي بمعنى أن المعاهدة عدّته سورياً، وهذا يدلّ على أن هذه المنطقة هي جزء من سورية.

في معاهدة سيفر عام 1920، اعترفت السلطنة العثمانية المنهارة بعروبة منطقتي الإسكندرون وقيليقية (أضنة ومرسين) وارتباطهما بالبلاد العربية، وكان اللواء جزءاً من المملكة السورية العربية التي قامت عقب نهاية الحرب العالمية الأولى، وسقطت بيد الاحتلال الفرنسي في معركة ميسلون 1920. بعد توحيد الدويلات السورية التي شكلها الانتداب الفرنسي، ضُمّ لواء الإسكندرون إلى السلطة السورية المركزية، وفي 29 أيار 1937، أصدرت عصبة الأمم قراراً بفصل اللواء عن سورية وعُيّن للواء حاكم فرنسي.

ويسكن الإقليم حالياً نحو مليون نسمة، ولا يوجد أي تعداد للنسبة العربية من سكانه بسبب السياسة التركية القمعية للأقليات القومية، ويشكو سكان الإقليم العرب من القمع الثقافي واللغوي والعرقي الذي تمارسه تركيا عليهم، والتمييز ضد الأقلية العربية لصالح العرق التركي في كل المجالات وهو متابعة نحو التتريك الكامل للواء.

وهناك تواصل مستمر في مناسبات خاصة كالأعياد بين سكان اللواء وبين أقربائهم في الأراضي السورية المجاورة، ولا زالت سورية تعدّ لواء الإسكندرون جزءاً من ترابها الوطني، ولا زالت الخرائط السورية تظهر لواء الإسكندرون على أنه منطقة سورية محتلة.

سيبقى اللواء سورياً، وستبقى أسماء الجبال والسهول والمدن في اللواء تحمل روح المنطقة، وتاريخها، وتنطق بهوية الأرض، فأنطاكية وإسكندرون وأرسوز والريحانية والسويدية أسماء تفوح منها عروبة المدن، والأمانوس والأقرع وجبل موسى والنفاخ أسماء لا تخفي هوية الجبال السورية.

وعلى الرغم من كلّ ما قامت وتقوم به السلطات التركية لفرض سياسات التمييز الثقافي واللغوي والعرقي ضدّ السكان السوريين من أبناء اللواء واضطهادهم والتضييق عليهم، يصرّ السوريون أبناء اللواء السليب على ارتباطهم بوطنهم الأم سورية، وانتمائهم له، ويؤكّدون في كل مناسبة أن لواء إسكندرون سيبقى سورياً للأبد، وسيبقى ماثلاً في ذاكرة الأجيال حتى عودته إلى الوطن الأم سورية، وهو حتماً سيعود مهما طال الزمن، ولن يسقط بالتقادم ما دام هناك وراءه مطالب.