الافتتاحيةالبعث أونلاينسلايد الجريدةصحيفة البعث

لا يراهن على الإرهاب إلا الإرهابي.. ولا على الإجرام إلا المجرم

بسام هاشم

لنعترف أولاً أن “مفاجأة ما” قد وقعت، ما كان ينبغي أن تحدث أصلاً، لأن الحقيقة الثابتة هي أنه لا يمكن الثقة بالأتراك ولا بأردوغان. ولنقل أيضاً إن العدوان الذي حرص على أن يعطي نفسه طابعاً خاطفاً عرف كيف يستفيد إلى أقصى حدّ من وسائل التواصل الاجتماعي لكي يوحي بالانهيار السريع ويكرس الشعور بسرعة السيطرة على المدينة. لكن المعركة العسكرية ليست “سوشال ميديا”، ولا يمكن تحقيق النصر من خلال إثارة الذعر في الأحياء الآمنة، ولا التقاط الصور في القرى الريفية المتباعدة وسط المناطق المفتوحة، ولا عبر إغراق الشاشات بالكاميرات الشبحية وبالمشاهد الرقمية المشبعة برسائل كاذبة.
كما يمكن التأكيد على أن الجيش العربي السوري تصرف بضبط أعصاب، ومسؤولية عالية، انطلاقاً من حرصه المسؤول على مقدراته البشرية خاصة، وعلى وحدات ليست أصلاً في أوضاع قتالية عادية على امتداد جبهة عسكرية نظامية، فالمناطق التي تسلل إليها الإرهابيون خاضعة أساساً لاتفاقات خفض التصعيد، ويتحمل الأتراك مسؤولية تطبيق ما جرى التوافق عليه في أستانا فيها، وهو ما نكثوا به مجدداً، موجهين الطعنة في الظهر لروسيا وإيران مرة أخرى، فقد جاء العدوان على حلب بعد أسبوع من التقارير التي تفيد بأن الصواريخ الغربية بعيدة المدى ستستخدم في ضربات في عمق الأراضي الروسية، وفي وقت تقلب إيران أوراق ملفها النووي غداة فوز ترامب والتحضير لليوم التالي في كل من جنوب لبنان وغزة.
وإذا كانت قواتنا المسلحة قد أعطيت الأوامر بإعادة الانتشار، فذلك لاستيعاب الطبيعة القطيعية للعدوان غير المسبوق، والتي كانت ميزت تكتيكات العصابات الإرهابية في سورية في كل مناطق تواجدها سابقاً، ولأن ذلك يوفر، فوق ذلك، الفرصة للقضاء على العصابات بأسرع وقت ممكن، والعودة بالأوضاع داخل المدينة وأريافها المباشرة إلى سابق عهدها.
إن تمسك الجيش العربي السوري بالأسلوب العملياتي التقليدي لجهة المبادرة الفورية لامتصاص “الضربة الأولى”، و”تعزيز جميع النقاط على محاور الاشتباك المختلفة بالعتاد والجنود”، والاستفادة من التوزع العشوائي للمجموعات المهاجمة، وضرب طرق إمداداتها، وفصلها عن داعمها الإقليمي المباشر، وتحويلها إلى مجموعات صغيرة متناثرة ومعزولة عن بعضها، وعدم تمكينها من تثبيت مواقع أو نقاط تمركز ثابتة، هو الاستراتيجية الأكثر عملانية لإحباط مثل هذا الهياج الذي لا يذكّر إلا بتلك “الفورات” الإرهابية التي غالباً ما كانت تنقلب إلى كوارث على المجموعات نفسها.

واضح أيضاً أن العملية كانت مبيّتة ومعدّ لها مسبقاً، وأن الأوراق والخطط كانت مخبأة في الأدراج، ولربما كانت المفاجأة الأم والأساس تتمثل، قبل كل شيء، بصدمة الإرهابيين والأتراك أنفسهم من التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، والتوقعات بقرب الإعلان عن اتفاق مماثل في غزة، إذ يبدو أن السيناريو الأقرب إلى الواقع هو، أردوغان ومجموعاته الإرهابية كانوا يراهنون على هزيمة المقاومة، لملاقاة نتنياهو من الشمال في إطار مشروع تفكيك محور المقاومة ومحاولة تقطيع أوصالها، بدءاً من الحدود السورية مع العراق وصولاً إلى الحدود مع لبنان، كـ “دفعة على الحساب” يمكن تقديمها لترامب، قبيل تقلّده منصبه رسمياً في شباط المقبل.

.. لم يضعف أردوغان احتمالات التوصل إلى تفاهمات مع سورية بمثل هذه العملية الجبانة، بل أكد قصر نظره السياسي عندما خمّن أنه يمكن أن ينجو من مغامرة من مثل هذا النوع تجاوز فيها كل الخطوط الحمر.. إن التذاكي والنفاق واللعب على الحبال، وعلى التوازنات، يمكن أن يحقق مكاسب عابرة ومؤقتة وتكتيكية، ولكنه لا يمكن أن يؤسس لاتفاق؛ وفي أفضل الاحتمالات فإن سورية لا يمكن أن تتقبل أي محاولة للّي ذراعها، والمسألة مسألة وطنية قبل أي اعتبار آخر؛ وإن كان أردوغان يألف توظيف مرتزقة يعملون تحت أمرته، ويعتبر ذلك “عدّة” شغل سياسية، فلأنه اعتاد العمل كمرتزق منذ عقود طويلة، وليس لأنه يتبنى ما يصفه “إصلاحاً” أو “مطالب إصلاحية”؛ والمعركة – كما تراها سورية – ليست مع حفنة من المرتزقة الذين يقاتلون في سورية، كما قاتلوا – ويقاتلون – في أوكرانيا وناغورنو كراباخ وليبيا، بل هي مع خونة وضعوا أنفسهم في خدمة الأطماع التركية المتشعبة والمتزايدة تعقيداً.
إن سورية تتحول، بعد قرابة عقد ونصف من الحرب، إلى المشكلة والحل بالنسبة لنظام أردوغان، إنها العقدة المستعصية في كل سياسات أنقرة، ولربما يفسر ذلك كل هذا التخبط التركي في التعاطي مع سورية، بدءاً من الدعم غير المعلن للإرهابيين، مروراً بالمسارعة للتحدث باسمهم ونيابة عنهم، وصولاً لاستخدامهم كأوراق مساومة، حسب طبيعة الموقف، وتبعاً لجنسياتهم الأصلية؛ وكان في غاية الافتضاح أن تلتزم تركيا الغموض الرسمي، أو يرسل بعض مسؤوليها التصريحات والتعليقات المتناقضة، من قبيل تقديم الدعم المكشوف للمجموعات الإرهابية، أو النأي عن تحمل مسؤولية الأحداث الجارية، أو حتى الإيحاء بوجود مسافة بين أنقرة وبين الإرهابيين، في أرياف إدلب وحلب، للتعمية على حقيقة الدور التركي في العملية.

ولا مبالغة في القول إن كل المشاريع والتصورات التركية، السياسية والاقتصادية والثفافية، تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي، إنما تتوقف في جزء كبير منها عند “الحواجز” السورية، وأن هذا الجنون العثماني التركي لن تكبح جماحه، ولن تعيده إلى جادة الصواب، إلا المواقف (الشروط!!) السورية الثابتة، وهنا يكمن جذر الشعور الأردوغاني المزمن بالإحباط والفشل تجاه سورية، فأردوغان لا يستمد قوته إلا من الانخراط في المشاريع الغربية الأطلسية والإسرائيلية المعادية للمنطقة العربية، إنه يستلزم ويستزلم، يستجدي العقود من الباطن ويستغل التوترات الإقليمية لتعزيز أطماع تركيا على حساب المصالح الوطنية السورية والقومية العربية والتضامن الإسلامي، وفي تحالف مع السياسات والمصالح الأمريكية والإسرائيلية في الشرق الأوسط.
بقي التأكيد على أن أردوغان تجاوز كل قواعد اللعب هذه المرة، وهو يجازف بدفع التوترات العميقة إلى نقطة تحول حرجة، وتحويل شمال وغرب سورية إلى ساحة للمواجهة الإقليمية والدولية. إن كرامة سورية – سورية الحقيقية بأبنائها الشجعان وجيشها الباسل- لا تسمح لها بتقبل عودة أردوغان بأي شكل، وتحت أية يافطة، والخونة خونة ولا اسم آخر؛ والإرهاب لا يراهن عليه إلا الإرهابي، والإجرام لا يعول عليه إلا مجرم.