ثقافةصحيفة البعث

أشياء جميلة

د. مي بكليزي

في قصيدته “أشياء جميلة” المنشورة ضمن مجموعته الشعرية “شغف الأسئلة”، نجد أشياء كثيرة، وقد جاءت نكرة لتدلّ على العموم والكثرة، والشيء جمعها أشياء جاءت على صيغة الجمع لتدلّ على الكثرة أيضاً، وقد وصفها الشاعر منذر يحيى عيسى بالجميلة، وهو وصف انطباعي نابع من حساسية الشعر وإحساسه تجاه ما حوله.

هذا وتفرعت عن العتبة الأولى سبع عتبات متماثلة تتصدّر مطلع المقاطع التي عبّر عنها بـ”جميل”؛ ليسرد بعدها حكاية العشق والجمال، النابعة من عينه التي تريد أن ترى الجمال ولا تخطئه، والإصرار على الجمال في الأشياء نابع من الجمال المتوطن في نفس الشاعر، وكما قيل: “كن جميلاً ترى الوجود جميلاً”، وقيل أيضاً: “كل يرى الناس بعين طبعه”، ولو اتفقنا على هذه المسلمة التي تتفتق عنها مشاهد الحسن والفرح منتشرة في كل ناحية، لوجدنا صوراً حيّة استلهمها الشاعر مما حوله متبسماً وفرحاً بكلّ تفاصيل الأشياء حتى ولو بدت صغيرة.

نحن أمام سبع لوحات من الجمال يتخيّرها الشاعر لترسم سعادته ويوثقها بمشاهد يمكن أن تكون مألوفة للإنسان العادي، لكن النفس الشفيفة المحلّقة في سماء الصفاء، لها رأي آخر تتمخّض عنه عناوين ليست عابرة، إنما تلهم كلّ عين بأن تنعم النظر في الجمال حولها وتستلهمه ليذود عن حزنها الموسد في أعماق روحها المرهَقة.

عديدة تلك الأشياء التي اختارها الشاعر لترسم معنى وملامح الجمال في حياته، بدأها من القلم والصفحة البيضاء وأنهاها فيها كذلك؛ حين بدأ قال:

“جميلٌ أن يكونَ لديكَ أوراقٌ بيضاءُ وقلم

والأجملُ أن توسِّدَ فوقَ البياضِ أسرارَ الماءِ وهشاشة الزبد”

وختمها قائلاً:

“جميلٌ أن يستمرَ المدادُ في القلمْ وجميلٌ أن تحاورَ الألمْ وأن تلوِّنَ البياضَ وتلامسَ القممْ”.

ما بين دفتي قلمه سطوره البيضاء، مساحات من الجمال وأروقة فسيحة من الحياة، يبدؤها من الطفولة التي يتمنّى ألا تغادره على الرغم من مرور السنين، مروراً بالقهوة المتربعة على عرش جماله لا تأفل؛ قيل: “الماء والخضرة والوجه الحسن” ويزيد ما يزيد عليها بـ”لفافة تبغ”، يستعيد نشوته التي قطعتها عليه مشاغل الحياة وملهياتها، فيعقد هدنة مع ضجيج الحياة وقسوتها فهو في استمتاع “رغمَ ضجيجِ الشوارعِ ودخانِ الحافلاتْ” بأشياء بسيطة ليست مترفة يختار أن يستمتع بالجمال، استطاع بروحه الطفولية وقبل كلّ شيء أن يرى الجمال، وهذه عادة وديدن الإنسان المتصالح مع نفسه، الراضي بقضاء الله يرى كلّ ابتسامة صغيرة ضحكة فاغرٌ فاها، وكل تربيتة على الكتف حضناً دافئاً يروى ظمأ الحنين للحب.

ويرى في ابنه امتداداً لهذا الجمال المكتنز في نفسه؛ فهو يطاول السماء تماماً كنبات اللبلاب اليانعة خضرته، إذ كان اللبلاب يقدّم للعريس والعروس كرمز للحياة الأبدية والإخلاص والخلاص والولاء، ففي ابنه خلوده وذكره حتى بعد حين، فهو مؤشر على الحياة ودليل عليها، ولا يزال يدقق في وجه ابنه الذي اعتلته علامات الشباب، وبدأ فيها ذقنه بالورود موارد الرجال؛ هو شعور رائع لا يعرفه إلا من رأى هذه العلامات تقود ولده إلى المستقبل والانتقال من مرحلة الطفولة البريئة إلى مرحلة الشباب الجاد والرجولة المنتظرة.

جميل؛ أن يرحب بنزول المطر حتى لو كان متأخراً، مادام قد أنهى الجفاف القاسي الذي امتطى صهوة جواد الخصب والإنبات، فلا يأس يحاصر أفكاره ولا قنوط فالحياة مرحب فيها أنّا أتت حتى ولو متأخرة، وهذا ما عبّر عنه بمتع الحياة المفاجئة التي باغتت سكونه وتفحصت قسمات وجهه فأهطلت عليه متعاً يلقاها مع شريك له يقاسم فرحه معه تماماً ككسرة الخبز اللذيذة التي تهب له الحياة، وجميل أيضاً أن يهطل المطر لكن لا يريده ليلاً، إنما في الصباح لتكون الشمس شاهدة على نزوله، ففي الليل الموحش وحشة تزيدها وحشة نزول المطر.

البياض

البياض ذلك  العالم الذي يبني أحلامه فوقه، ويجنب روحه زلات اليأس والخوف،

والأجملُ

أن توسِّدَ فوقَ البياضِ

أسرارَ الماءِ

وهشاشة الزبدْ…

فهو يمارس عادة الفرح التي انتهجها ليملأ بياضه بألوان الفرح، وأسرار الماء الذي فقدته يداه ذات ضياع من انقطاع الغوث من السماء، وهشاشة الزبد الذي شكلته أمواج حياته المتلاطمة، فاختار أن يلوّن به بياض روحه ليزخر بلوحات الجمال الصارخ التي حاورت ألمه وتفهمته، فهو كالصديق يحاوره ويجاذبه أطراف الحديث، إذ يبدو أنه تغلّب عليه والنتيجة كانت ملامسة القمم فهي ليست قمة واحدة، إنما قمم استطاع الوصول إليها بتؤدة مفرطة وحلم بالغ.

وجميلٌ أن تحاورَ الألمْ

وأن تلوِّنَ البياضَ

وتلامسَ القممْ

وجميلٌ

أن تعاقرَ حلماً

لتقتلَ السأمْ…

لا يستنهضه جفاف ولا تأخر لمواسم القطف والخصب، منتشٍ بمعاقرة حلمه تماماً كالذي ينتشي بشرب الخمر ما دام في نهاية المطاف سيقتل ويطرد الملل من حياته.

وفي الصّور الشعرية، نبدأ القول: يرتع: يتوسّع في أكل ما لذّ وطاب، وقيل: أصاب خصباً وبحبوحة، وهذا الوصف ينسجم تماماً مع فترة الطفولة التي تكون فيها سمة الاستمتاع في الحياة هي الصفة الغالبة، وهو يستحضر فترة صغره أمام عينيه، ويراها تصيب مواطن الأكل والشرب في حقول ناظريه الممتدة، طفولة خصبة، ممتلئة بالذكريات الجميلة، والأنس البالغ الذي لا تخالطه وحشة امتداد السنين وتعرضها لمواقف الحياة الصعبة.

أن ترى طفولتكَ

ترتعُ في حقولِ ناظريكَ

وهنا الصباح يجيء وله يدان تمتدان لتحملا فنجان الحياة والنشوة والاستغراق في الحياة، وكأنه إنسان له يدان تمتدان لالتقاط متع الحياة.

أن يجيءَ الصَّباحُ

وعلى راحتيهِ

فنجانَ قهوة

والفرح الذي عمّ جسده وفاض في روحه، كأنه قميص سعادة عمّ بدنه، وستر عورة الحزن الطويل الذي لازمه، فرح يسيحه في الأرض ولها فرحاً

فتسافرُ في المدى

ترتدي قميصَ فرحٍ

هذا قلمك وهذه السطور البيضاء فاكتب عليها ما تشاء، وكأنه يريد أن يقول إن حياتك صفحات بيضاء وهذا القلم ملكك فاملأ صفحاتك بما تشاء؛ هذا البياض المستطير املأه فرحاً أو حزناً لا يهمّ ضجيج الحياة فيه، فهو يعاقر الحلم تماماً كالخمر يعيشه في نشوة الفرح وانتظار تحقيقه، ومن الممكن والممكن جداً رسم لوحة الفرح والجمال من وفي أبسط الأشياء، فلسفة راقية عبّر عنها الشاعر في هذه المقطوعات للحياة التي أنجبت الفرح والسرور كما تماماً أنجبت معها الألم والحزن.