دراساتصحيفة البعث

الخيبة تخيم على الاقتصاد الألماني

ريا خوري

شهد العالم حالة التفوق الاقتصادي التي وصلت إليها ألمانيا الاتحادية والذي اعتبر أكبر اقتصادات العالم، فقد احتل المركز الرابع من حيث الناتج المحلي العالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية واليابان. كما تحتل ألمانيا الاتحادية المرتبة الخامسة من حيث القوة الشرائية كونها الأكثر سكاناً في أوروبا، إذ  يبلغ عدد سكانها 82 مليون نسمة تقريباً.

لكن الظروف الدولية والأوروبية والمحلية التي تمرّ بها ألمانيا الاتحادية انعكست بشكلٍ كبير على الاقتصاد الألماني الذي خيّمت عليه الخيبة والقتامة، فقد تحدثت التقارير والدراسات الاقتصادية المتخصّصة بأنّ العام القادم 2025 سيكون عاماً قاسياً أكثر من السنوات الماضية، فقد رجّح المحللون الاقتصاديون أن يتوقف اقتصاد ألمانيا عن النمو، حيث تواجه الآن حروباً تجارية محتملة مع كل من الولايات المتحدة والصين، ما يفاقم الضغوط على قطاع السيارات المهيمن والمتعثّر بالفعل. وقد أعلن مجلس إدارة شركة فولكسفاغن أن ثلاثة من معامله مهدّدة بالإغلاق، وبالتالي خطر فقدان عشرات الآلاف من العاملين لوظائفهم.

يبدو أنّ التحولات الجيوسياسية المتنامية في أوكرانيا، وما يدور فيها من حرب طاحنة قد أحدثت مخاوف كبيرة على الصعيد الاقتصادي، فقد عاودت أسعار الطاقة من نفط وغاز الارتفاع مرة أخرى، وخيّم ضباب انتخابات شهر شباط على المستقبل المالي للبلاد.

لقد حاولت ألمانيا الخروج من أزماتها البنيوية فأقدمت على إجراء بعض التعديلات على قوانينها الاقتصادية، مع العلم أنّ تلك التعديلات لا يمكن أن تحقّق تقدماً بمعزل عن التوقعات الاقتصادية لكلّ من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وفقاً لـ”بلومبيرغ” للخدمات الإخبارية والإعلامية والمعلومات المالية، وقد عكست هذه المراجعات بعض التفاؤل في جميع أنحاء المنطقة، مدفوعاً بأرقام الناتج المحلي الإجمالي الأفضل من المتوقع للربع الأول من العام الحالي 2024. علاوة على ذلك، تتجه معدلات التضخم النقدي نحو الانخفاض إلى اثنين بالمائة المرصود من البنك المركزي الأوروبي، مما يوفر راحة إضافية ومساحة لتوسيع الأنشطة الاقتصادية. مع العلم أنّ ألمانيا الاتحادية ليست عنواناً مطلقاً لمنطقة اليورو، فبقية الكتلة (الكتلة الأوروبية) تعمل أفضل بشكلٍ ملحوظ، لكن ثالث أكبر اقتصاد في العالم لا يزال يمثل أكثر من ثلاثين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي، والمزيد من الضرر الحاصل فيها لقوته الضاربة تقليدياً قد يُجبر البنك المركزي الأوروبي على تخفيف أكثر بكثير مما تشير إليه تصريحاته الأخيرة بشأن التدرج، كون البنك المركزي الأوروبي المسؤول عن تحديد الخطوط العريضة للسياسة النقدية في منطقة اليورو، واتخاذ القرارات الصادرة عنه اللازمة لتنفيذها.

المعاناة التي يقاسيها الاقتصاد الألماني هذه الأيام تشهد حالةً من المراجعات المالية تهدف إلى خلق حالة من الاستقرار المالي، وتحديداً تلك التي تجريها البنوك المركزية. وأهم القوائم المطلوبة من المخاطر الهائلة، برزت نسخة البنك الفيدرالي الألماني الذي يعتبر جزءاً من النظام الأوروبي للبنوك المركزية (ESCB). فقد أكَّدَ البنك أن قطاع الشركات في ألمانيا الاتحادية لا يزال يعاني تحديات هيكلية عميقة وكبيرة تسبّبت في انخفاض نسب الأرباح الإجمالية كل ربع سنة تقريباً لمدة عامين كاملين.

وسلّط البنك المركزي الألماني الضوء بشكل واضح على الأضرار الكبيرة التي قد تلحقها أسعار الفائدة المرتفعة وأسعار الفائدة المركبة حتى الآن، فقد أشارت العديد من التقارير الصادرة عن البنك المركزي الألماني أنّه من المرجح أن تحدث حالات إفلاس كبيرة للشركات الكبيرة والمتوسطة، وحتى الشركات الصغيرة العام القادم 2025 م، وأن يبقى خطر التخلف عن سداد الديون والمستحقات للشركات غير المالية مرتفعاً، نظراً للتغيير الهيكلي المستمر والضعف المتواصل للاقتصاد الألماني.

من الواضح أيضاً أنَّ الأزمة السياسية التي تخيّم على ألمانيا مع انهيار الائتلاف الحكومي، أدّت إلى ارتفاع عدد حالات إفلاس الشركات في تشرين الأوّل الفائت مع توقع استمرار الارتفاع في أعداد حالات الإفلاس الحاد خلال الأشهر القادمة.

لقد أظهرت التقارير المتخصّصة أنّ حالات الإفلاس قد ارتفعت بنسبة خمسة وعشرين بالمائة عن العام السابق، على الرغم من أنّها خلال النصف الأول من العام الحالي 2024 بقيت أقل من ذروة انهيار البنوك العالمية وأزمة اليورو قبل أكثر من عشر سنوات مضت، فقد وصل عدد حالات الإفلاس التي تمّ تسجيلها في الشهر الماضي إلى ألف وخمسمئة وثلاثين حالة إفلاس، وهو أعلى عدد يسجل في شهر تشرين الأول منذ عشرين عاماً.

في حقيقة الأمر يبدو أنَّ ضعف الأداء الاقتصادي المستمر يتزامن مع ارتفاع كبير في تكاليف الأجور والطاقة من نفط وغاز، بالإضافة إلى تأثيرات تراكمية من فترة جائحة كوفيد 19، حيث دعمت برامج المساعدات الحكومية حينها الشركات الضعيفة، مما أدّى إلى تأجيل حالات الإفلاس التي تشهدها ألمانيا اليوم.

وبالمقارنة مع متوسط عدد حالات الإفلاس في تشرين الأول خلال الفترة من عام 2016 إلى عام 2019، أي قبل جائحة كورونا، فإنَّ حالات الإفلاس هذا العام تزيد بنسبة ستة وستين بالمائة.

تلك الموجة من الإفلاس جاءت نتيجة ضعف اقتصادي دام طويلاً مع تكاليف باهظة، حيث تأثرت نحو أحد عشر ألف وظيفة فقط بحالات الإفلاس في الشهر الماضي تشرين الأوَّل، مقارنة بشهر أيلول حيث كان عدد الموظفين المتضررين أكثر من ضعف هذا العدد بكثير، وذلك لعدم تسجيل حالات إفلاس لشركات كبيرة لها مكانتها الاقتصادية في ألمانيا.

لقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية في ألمانيا بعد أن أقال المستشار الألماني أولاف شولتس، وزير المالية في الحكومة ريستيان ليندنر، لأنّه بادر بدوره لسحب وزراء حزبه من الحكومة الفيدرالية إثر خلافات عميقة بين الليبراليين بزعامة ليندنر، والاشتراكيين الديمقراطيين بزعامة أولاف شولتس حول السياسة الاقتصادية والميزانية التي يجب إتباعها، إذ يؤيد شولتس إنعاش الاقتصاد الألماني المتعثّر من خلال الإنفاق، بينما يدعو الليبراليون بزعامة ليندنر إلى خفض الإنفاق الاجتماعي وضبط الميزانية بشكل حازم.

ليس هذا فحسب، بل ازدادت الأزمة تعمقاً بعد محاولة البنك المركزي الألماني إضافة جرعة من الثقة إلى الكآبة المحيطة، لافتاً إلى أنَّ الاقتصاد لا يزال قادراً على التغلّب على الصدمات الكبيرة التي شهدها العامان الماضيان.

لم يتمكّن البنك المركزي الأوروبي المسؤول عن تحديد الخطوط العريضة للسياسة النقدية في منطقة اليورو، واتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذها أن يتكهن بآثار حرب تجارية عالمية، ويحتاج إلى الانتظار حتى قدوم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمعرفة ما إذا كان الرئيس المنتخب سينفّذ بالفعل خططه المتعلقة بالتعريفات الجمركية التي هدَّد بها منذ فترة طويلة وأثناء حملته الانتخابية، علماً أنَّ الحرب التجارية أكثر إثارة للقلق بالنسبة للنمو، من التضخم نفسه، وأن الناتج الاقتصادي العالمي سوف يعاني خسائر كبيرة غير متوقعة إذا أصبحت التجارة أكثر تجزئة، في حين أن التضخم سوف يهدأ بشكل تدريجي.

وبالنسبة لعمليات التصدير الألمانية، فإن حالات القلق التجارية قد تتضاعف ثلاث مرات، وذلك بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية الشاملة لكلّ البضائع، واحتمال حدوث ضربة للطلب الصيني الإجمالي على بضائعها وسلعها طبقاً للحواجز الأمريكية الأكثر شدّة على الصين، وكذلك الآثار المترتبة على الخلاف المستمر بين بكين وبروكسل بشأن السيارات الكهربائية.